محمد جميل أحمد -
إلى الصديق .. (محمد سويلم) -
ذهنية التخلف تعكس، باستمرار، تمثيلاتها عبر الوعي المفكك بطريقة مطردة في كل المجتمعات التي يضربها فيروس التخلف من دون استثناء. وفي ظل هذه الوسائط ومنابرها ومنصاتها السائرة بين الناس في حياتنا الرقمية اليوم، خلال الكثير من أدوات الاتصال، سيبدو الأمر أكثر إغراء في تمثيلات تلك الذهنية عبر استجابة الكثيرين لإغراء الظهور، ما دامت الحسابات الرقمية مجانا والقدرة على التخفي وراء اسم مستعار ممكنا.
في مناخ كهذا، ملأ فيه فيروس كورونا الدنيا وشغل الناس ثمة استجابات لا يمكن تصور خفتها ومجانيتها، إلا في ظل شروط تخلف مزمن؛ يصور لكل من هب ودب أنه بمجرد امتلاك حساب في فيسبوك، أو قدرة على توصيل مقطع صوتي عبر الواتساب، فإن ذلك كاف ليجعل منه شخصًا مشهورًا، كيفما كان شكل تلك الشهرة.
لقد مر على الناس ما سمي بزمن «الصحوة» فرأى فيه الجميع نموذجًا مثاليًا لكيفية اشتغال تأخر الفكر بكفاءة على استباحة المعرفة بنوايا مستهلكي الشهرة من أناس توحي اليهم خيالاتهم المريضة؛ أن فكرة شمولية الإسلام لابد أن تدخل في تفسير كل ظواهر الأزمنة الحديثة سياسيةً كانت تلك الظواهر أو اجتماعية أو اقتصادية أو علمية وهكذا، فيما كانت آليات اشتغال التخلف تضمر في ذهنيات بعض رجال «الصحوة» تمثيليات لا واعية لدور الضحية، فيما هي تتوهم استشعار المؤامرة على الإسلام في كل صغيرة وكبيرة؛ بدت تفسيرات كثيرة لبعضهم على أحداث ووقائع العالم كما لو أنها مثيرة للشفقة أكثر من أي شيء آخر!
هكذا أطلق بعضهم، من قبل، خلال ما حدث في يوم 11 سبتمبر 2001 عند ضرب مبنى برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك؛ زعمًا مفاده: أن في يوم الهجوم تغيب نحو 4000 من اليهود الأمريكيين عن العمل، ليدلل بذلك على أن في الأمر مؤامرة تحاك للإسلام والمسلمين، فيما بديهيات العقل لا تقبل مثل ذلك الزعم الساذج والسخيف. إذ كيف يمكننا أن نتخيل تواطؤ 4000 شخص على سر ذلك الهجوم فيما السر إذا تجاوز 3 أشخاص لا يمكن أن تنطبق عليه صفة السر أصلًا!
وفي ظل وباء كورونا الذي هو حديث العالم اليوم؛ إذا أمكننا القول إن زمن «الصحوة» أصبح في حكم الأفول اليوم، إلا أن هناك من يتبرع بإطلاق بعض الفذلكات السخيفة عن التفسير المؤامراتي لفيروس كورونا عبر تلك الوسائط الرقمية، مؤكدا باستمرار أن ذهنية التخلف لا تزال تشتغل بطاقتها المدمرة.
لقد زعم تسجيل صوتي عبر الواتساب لشخص مجهول الهوية، دون ذكر اسمه حتى؛ أن ثمة نصب في ولاية جورجيا بالولايات المتحدة، فيه كتابات بلغات عديدة من ضمنها اللغة العربية. ثم بعد أن يصف هذا الشخص النصب بصوت مهيب متحدثًا عن شكله الهندسي الجرانيتي الغريب؛ يذكر أن من ضمن تلك الكتابات التي على النصب، جملة تقول: «احرصوا على إبقاء عدد البشر في الأرض 500 مليون» ليعلق صاحبنا بعد ذلك بالقول لسامعه «اعتقد أنك خمنت» ثم يواصل: «ما في أسهل من الفيروسات». ورغم تهافت مضمون هذا المقطع الصوتي وما فيه من خيال فقير، إلا أنه كذلك يقع في مغالطات وتناقضات يدركها حتى الأطفال. فإذا كانت هناك مثلًا جهة تخطط لتدمير البشر الذين أصبح اليوم تعدادهم 7 مليارات، وتسعى لتصفية 6 مليارات ونصف منهم فهل من المعقول أن تصرح تلك الجهة عن نواياها الشريرة تلك على الهواء الطلق ومن خلال نصب تذكاري عام؟
ثم كيف يمكننا أن نتصور أن تلك الدولة التي فيها ذلك النصب (الولايات المتحدة) فيما هي تتآمر على البشر والعالم، يصبح مواطنوها، في الوقت ذاته، هم أكثر الضحايا الذين حصدهم هذا الفيروس؟!
وأخيرا، كيف يمكن الحديث بتلك الطريقة المجانية، في قضية لا نملك حتى مجرد خيال سليم للحكم باستحالتها؛ فمن يصدق اليوم أن في الإمكان إبادة 6 مليارات ونصف مليار إنسان من أجل حياة 500 مليون؟ كيف ستسوق الشركات العالمية منتجاتها بعد مقتل 6 مليار ونصف من البشر، مثلًا؟
إن منطق الغباء والعجز عن رؤية التناقضات الظاهرة في مثل هذه الترهات لا تتخيلها إلا عقول متخلفة، وجدت في المنصات الرقمية والتواصلية فرصة لا متناهية لنشر مثل ذلك الغباء والتعبير عن خيالها المريض!
حين يقع الشلل في منطق التفكير العقلي، وتصبح قدراتنا على ضخ الخيالات الضارة والمضحكة طاقة تدميرية لإنتاج مزيد من الشلل الإرادي عن التفكير الحر، ثم نرى بعد ذلك من يصدق تلك الخيالات، ويتحمس لنشرها عبر وسائط رقمية؛ فنحن هنا أمام حالة عيانية بامتياز لكيفية اشتغال آليات التخلف.
قد لا يبدو ثمة قدرة على الخروج من مأزق التخلف اليوم، بالرغم من الثورة الرقمية التي أصبحت (نتيجة لمواضعات غريبة في المنطقة العربية) أكثر إغراءً بالتمادي في الأمية الرقمية، وذلك على الضد تماما من ثورة الطباعة!