عاصم الشيدي -
assemcom@hotmail.com -
أنا ممن يؤمنون أن السلام مع إسرائيل غير ممكن، وفي الظروف العربية الحالية لا جدوى منه أبدا، وفي ذلك أحكام للتاريخ وأحكام أخرى للواقع. ولم تكن إسرائيل في يوم من الأيام قادرة على المضي نحو السلام باعتباره موقفا فكريا من «دولة» تصنف نفسها بأنها تقدمية وديمقراطية، أو لاعتبار السلام مقابل الأرض أو حتى السلام مقابل السلام.
والسلام كما نعلم قضية تاريخ، وموقف ينبع من الثقافة نفسها وهذا غير متوفر في إسرائيل لا بعد 1973 ولا في عام 2020 حيث طبعّت أربع دول عربية علاقتها معها. وأثبتت التجارب أن إسرائيل لا تستطيع السلام لأنه يخالف مبادئها التوسعية وحلم الدولة اليهودية وحدودها الممتدة.
وليس موقفي هذا أو إيماني عاطفي على الإطلاق، رغم أن للعاطفة مكانة وجيهة في هذا السياق وتستحق الاحترام، إنما لقراءة التجارب ومحاولة فهم التاريخ. والتجارب كثيرة ومعطيات التاريخ متاحة للجميع لقراءتها واستنتاج الحقائق منها لفهم المستقبل. ويكفي هنا قراءة التجربة المصرية منذ أكثر من أربعة عقود حيث وقع الرئيس أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر 1978 تحت وهم أنه سلام الأقوياء والشجعان وتحت وهم عودة الأراضي العربية المحتلة من إسرائيل في 5 يونيو 1967. كل تلك الأوهام تبخرت، حتى وهم أن يكون السادات رجل السلام الأبرز في العالم تبخر مع أول رصاصة من رشاش خالد الإسلامبولي ورفاقه على منصة الاحتفال بذكرى نصر أكتوبر عام 1981 وبعد ثلاث سنوات فقط من توقيع «كامب ديفيد». كانت الثقافة الإسرائيلية وأيديولوجيتها عائقا أمام أي تغيير أو محاولة لتسوية تلك الأوهام ولو عند حدها الأدنى، رغم أن السلام مع مصر، ولو مؤقتا، كان بالنسبة لإسرائيل حلما عظيما في السياق الاستراتيجي لاستمرار «دولة» إسرائيل خاصة قبل حرب 1973.
ومما يذكر هنا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن أجاب عندما سئل كيف ستستقبل السادات إذا قرر زيارة تل أبيب بالقول: سنستقبله كما لو أننا نستقبل «المسيح» في دلالة على حجم الفتح الذي تحققه إسرائيل بزيارة الرئيس المصري. لم يحصل السادات على شيء من ذلك الاتفاق الذي عزله عن العرب ومع الوقت عزله عن شعبه حتى اغتاله. (لم تلغِ إسرائيل احتفالاتها بيوم الغفران والذي صادف اليوم التالي لاغتيال «صديقها» السادات، كما لم تلغ السفارة الإسرائيلية في القاهرة احتفالها الذي أقامته في المعبد اليهودي بشارع عدلي).
وإذا كانت تلك الأوهام لم تلقَ من يختبرها عمليا قبل أربعة عقود فإنها كافية اليوم لمعرفة حقيقة السلام في الفكر الإسرائيلي. اللهم إلا إن كانت اتفاقيات التطبيع الجديدة لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية ولا بالصراع العربي مع إسرائيل. وهذا يجعلنا نتساءل عن المسمى قبل أن نتساءل ونبحث عن «ثمن» التطبيع. فمسمى «اتفاقية سلام» تحيلنا دائما إلى السلام الذي يأتي بعد الحرب سواء كانت حرب مواجهة حقيقية أم حربا باردة.
والواضح أن القضية الفلسطينية التي تآكلت مع الوقت، وهذا مما يؤسف له، ليست ضمن أي أجندة تطبيعية عند المطبعين الجدد وهذا أمر محسوم لا جدال فيه. فالطرف المطبع لا يملك، في الحقيقة، أي ورقة من أوراق الضغط التي يمكن أن تعيد إسرائيل إلى طاولة المفاوضات. وعلى فرض أنها تملك ولو ورقة بسيطة ألم يكن أمام إسرائيل على مدى عقدين من الزمن تقريبا «المبادرة العربية» التي تنص على تطبيع جميع الدول العربية دون استثناء ـ بما في ذلك دول المواجهة والممانعة، والدول العربية الكبرى والتاريخية ـ علاقتها مع إسرائيل مقابل قيام الدولة الفلسطينية!! أتترك إسرائيل هذه الفرصة الذهبية، لو كان السلام ضمن ثقافتها، وتذهب لعلاقات منفردة مع بعض الدول العربية ويمكن أن نناقش، مجرد مناقشة، أن ذلك سيخدم القضية الفلسطينية. مثل هذا النقاش سفسطائي لا يقوم على أي ركائز يمكن أن تصمد ولو إلى مدى قصير.
إذن لماذا هذا التطبيع العربي؟!!
لإسرائيل أهداف كثيرة من التطبيع العربي واستطاعت مع الزمن تحقيقها وليس آخرها تفكيك بعض المصطلحات التي كادت تجمع الأمة العربية في يوم من الأيام مثل «الوحدة العربية» ثم لاحقا «التضامن العربي» و»القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية» ولاءات العرب الشهيرة التي انطلقت من قمة الخرطوم في أغسطس 1967، وحتى المشتركات العربية التي يمكن أن يبنى عليها أي سياق يجمع العرب على كلمة واحدة. عملت إسرائيل بذكاء وبشكل علمي على تفتيت كل هذه الأسس، واخترقت عبر خطابات مدروسة ومتأنية الوعي العربي وأذكت الكثير من الخلافات العربية العربية، بل إنها استطاعت أن تجد للعرب قضية مركزية جديدة لتحل محل الصراع العربي الإسرائيلي ليكون الصراع الجديد صراع عربي فارسي.
هذا على المستوى الاستراتيجي أما على مستوى التفاصيل فوجدت إسرائيل في التطبيع الذي بدأ معلنا نهاية سبعينيات القرن الماضي فرصة لمزيد من الاستقرار من أجل البناء والتخطيط، وخدم كل ذلك الهاجس الاقتصادي لدى إسرائيل ورغبتها في تحويل الدول العربية المحيطة بها إلى سوق استهلاكية لمنتجاتها الزراعية والاقتصادية على اعتبار أن الأسواق الأخرى بعيدة والمنافسة فيها ليست سهلة. والتطبيع الاقتصادي في الفكر الإسرائيلي كان هاجسا ضروريا على الدوام وربما كان في الكثير من الأوقات أداة تعبر من خلاله الأفكار الأخرى لتغزو العالم العربي.
إذا كانت تلك أهداف إسرائيل «الناجحة في الكثير من الأوقات» من التطبيع.. فما أهداف العرب؟ ماذا ينتظر العرب من التطبيع مع إسرائيل؟ إذا لم يكن الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة التي عاصمتها القدس الشرقية «على أقل تقدير» فماذا يمكن أن يكون ثمن هذا التطبيع؟! أو ما جدواه أصلا؟! وهذا السؤال يطرح مع كل تطبيع جديد مع دولة الاحتلال. وهذا السؤال ليس عربيا فقط بل يطرح، أيضا، في الداخل الإسرائيلي ويطرحه كتّاب كثر في العالم. ويمكن أن نتذكر مقولات هنري كيسنجر خلال مفاوضاته مع السادات وكيف كان يعتقد أنه لن يرفع رأسه لأي صوت إسرائيلي قبل أن تعود الأمور إلى ما قبل 5 حزيران وكانت إسرائيل ستقبل بالأمر وفقا لكيسنجر في مذكراته إلا أن ذلك لم يحدث أو حتى لم يطلب. وإذا كان ذلك بعيدا في السبعينيات فإن مقالا نشرته مؤخرا صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية للكاتب فكيتور قطان الباحث في كلية القانون بجامعة نوتنجهام يستغرب فيه من «السرعة والمدى المذهل لاتفاقيات التطبيع الأخيرة بين الدول العربية وإسرائيل، وبدون أدنى ثمن، رغم أن ذلك كان يمكن أن يكون في مقابل أن تعترف إسرائيل بالدولة الفلسطينية».
البعض يعتقد أن التحولات المفاجئة في التطبيع المعلن مع إسرائيل جاءت في مرحلة رأى فيها بعض العرب أن استمرار الرهان على ترامب وحده رهان قد يكون خاسرا ولذلك كان الاتجاه صوب التطبيع مع إسرائيل وفيه يمكن أن يضرب عصفورين بحجر واحد توثيق العرى بإسرائيل ودعم موقف ترامب للبقاء في ولاية أخرى في الحكم. كان هذا طرف واحد من المعادلة أم الطرف الثاني فهي إيران التي كان العداء معها محورا أساسيا في سنوات ترامب الأربع في البيت الأبيض. كان رهان بعض الدول العربية أن إسرائيل يمكن أن تكون في صفها في حرب متوقعة في أذهان البعض ضد إيران سواء كانت حربا هجومية أم دفاعية في أراضي تلك الدول أو في أراض أخرى. فطرح مصطلح التطبيع مقابل الحصول على أسلحة متطورة، والتطبيع مقابل تحالفات استراتيجية أمنية مع إسرائيل والتطبيع مقابل وساطة إسرائيلية مع بايدن فيما لو كانت مواقفه مغايرة لسلفه.. وربما التطبيع مقابل قبة حديدية إسرائيلية تحمي العرب من خطر إيران!!
وبعيدا عن التحولات العربية في العلاقة مع إسرائيل وتحويلها من عدو مطلق إلى حليف استراتيجي فإن الرهان الجديد ينطوي على خطأ فظيع في فهم جوهر المشكلة بين إسرائيل والغرب من جهة وبين إيران من جهة أخرى، لأن جوهر المشكلة مختلف تماما عن جوهر مشكلة إيران مع العرب.
قبل عام 1979 لم تكن بين الغرب وإيران أي مشكلة، كانت إيران الشاة شرطي الغرب في المنطقة، وكانت علاقته مع إسرائيل علاقة استراتيجية. لذلك فإن المشكلة الغربية مع إيران طارئة جدا وهي مع نظام الحكم وليس مع إيران بذاتها، بل إن بعض الاستراتيجيين يرون أن إسرائيل لن تدخل حرب مواجهة مع إيران، حتى لو كانت إسرائيل ليست على علاقة بنظامها الحاكم. ولا بد أن نفهم في هذا السياق أيضا أن الثقافة الإسرائيلية/اليهودية تعتبر الملك «قورش» الفارسي هو صاحب وعد بلفور الأول وهو مخلص اليهود من سبي الملك نبوخذ نصر وهذا سياق لا تنساه الثقافة اليهودية، وخير من نظّر له الدكتور عبدالوهاب المسيري في موسوعته عن اليهود. ولذلك على العرب أن لا ينتظروا أن يقوم الجيش الإسرائيلي بحمايتهم من «خطر» إيران فهذا وهم مضحك أكبر من أوهام التطبيع الأول من إسرائيل نهاية سبعينات القرن الماضي.
وفرض تطبيع العلاقة مع إيران، الجارة بحكم الجغرافيا، والمسلمة بحكم العقيدة ـ (صحيح أنها مجروحة بحكم التاريخ) ـ أكبر آلاف المرات من مجرد التفكير في أن إسرائيل يمكن أن تخطو خطوة باتجاه سلام حقيقي مع العرب.
أما فكرة أن يكون التطبيع من أجل تغيير قواعد اللعبة ومحاصرة إسرائيل لتسريع عملية السلام والوصول بها إلى حل الدولتين والاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين فهذا متهافت لأسباب كثيرة نظرية وعملية. أما النظرية فنستطيع أن نقرأها في خطاب نتانياهو في جامعة بار إيلان في عام 2014 ومن مركز الدراسات الذي حمل «ليس الأمر مصادفة» اسم مناحيم بيجن وأنور السادات. في ذلك الخطاب قال نتانياهو إن قضيته الأساسية وقضية دولته ليست «قضية الدولة الفلسطينية» بل قضية «الدولة اليهودية» ومحاولة تقويض «الصلة القديمة التي تربط الشعب اليهودي بـ»أرض إسرائيل». في ذلك الخطاب صور نتانياهو الإيرانيين وكذلك الفلسطينيين وكأنهم نازيون، واستنادا إلى ذلك لا يمكن التحاور معهم. والحل الوحيد للاتفاق مع الفلسطينيين، من وجهة نظره، عندما يوافق الفلسطينيون على الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية.
كما أن الصراع من وجهة نظره مع الفلسطينيين لم يبدأ عام 1947 بل في عام 1921 عندما هاجم الفلسطينيون مقر القادمين الجدد في يافا في استهداف واضح للهجرة اليهودية. (يمكن قراءة الكثير من التفاصيل في كتاب أنطوان شلحت «بنيامين نتانياهو عقدة اللاحل»).
أما السبب العملي فلأن اتفاقيات التطبيع قد حدثت في عهد ترامب وبرعايته والبعض يقول بضغط منه. فكيف نفهم هدف السلام منها وهو الذي قوض عملية السلام واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس ولم يجرؤ أحد قبله فعل ذلك. وهو الذي أغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن وأوقف المساعدات للفلسطينيين وحرض الغرب على وقفها وضغط على العرب وهو الذي أوقف مساعدات وكالة الغوث «الأونروا». كيف يمكن أن نفهم هذا مع ذاك.
التطبيع بالنظر لكل ما سبق لا ثمن له يمكن أن يتقاضاه العرب سواء كان للقضية الفلسطينية أو لأي قضية عربية أخرى حتى لو كان قضية تخص دولة بعينها فقط. وإسرائيل لا تحمي إلا نفسها ولا تسير إلا في طريق استراتيجياتها التي وضعتها خدمة لدولتها اليهودية، وهي تعمل وفق استراتيجيات علمية ومدروسة تعرف متى تقدم ومتى تحجم حتى عن التطبيع نفسه.. وسنبقى في العالم العربي نسير بلا هدى.