أمل السعيدية -
هنالك سماتٌ محددة للكاتب، يعجبنا أن نفكر في هذا، حتى وإن لم يكن حقيقياً. وبطبيعة الحال حاول الكثيرون سبر هذه السمات، وكشفها للقراء، الواقفون على ميتافيزيقا الكتابة، المندهشون من سحرها. سرعان ما تعرفنا على طقوس وعادات مختلفة، بعضهم يكتب وهو واقف، وآخر لا يكتب إلا بقلم محدد. أفكر دوماً في هذه الأشياء على أنها مقاييس لكاتب مبتدئ، يشك في نفسه، قائلاً: هل أشبه كل أولئك الذين أحببت كتابتهم؟ هل يمكن أن أكون واحداً منهم ذات يوم. سرعان ما يكبر هذا الكاتب، إما أنه وجد طريقه الشاقة، أو تخلى عن الفكرة تماماً، لكن كاتباً مبتدئاً يولد كل يوم لحسن الحظ. بينما كنتُ أقرأ يوميات الكاتب المصري وجيه غالي " يوميات وجيه غالي كاتب مصري من الستينيات المتأرجحة المجلد الأول ١٩٦٤ – ١٩٦٦" والمترجمة حديثاً للغة العربية، انتبهتُ لبعد آخر لم أفكر فيه كثيراً فيما يتعلق بهذا الموضوع، وهو شخصية الكاتب. إلى أي درجة قمنا بمراكمة صور ذهنية نمطية عمن يكتب؟ لا تكمن الخطورة في هذا السؤال، بل في السؤال التالي: لأي درجة نُقدر ونفهم ونحن مستعدون لاستقبال الكاتب بشخصيته هو، لا بما صارت تمليه علينا القواعد العامة؟ أذكر بأنني في مرحلة ما اتهمتُ بأنني انفعالية، وقد خطر لي حينها التفكير في كافكا، مع احترام الفارق الكبير بيني وبينه طبعاً – لصالحه بالتأكيد – هل يمكن أن يكون كافكا كاتباً درامياً ليس إلا؟ شكّاء؟ بكّاء؟ لا يعجبه شيء؟ وقد وجد في والده المسكين مواضع سخط برجوازية، اذ كان متطلباً عاطفياً على نحو لا يطاق؟ إنها تهم يتداولها الناس بالفعل، لكنني أفترض أن لا علاقة لهم بقراءة أدب كافكا أو التقاطع معه في أحسن الأحوال. في حوار قد يبدو سفسطائياً في الجزء الثاني من سداسية كفاحي للكاتب النرويجي الأشهر اليوم كارل أوفه كناوسغارد، يحتج هذا الأخير على صديقه قائلاً: نحن لا نعرف متى يجلسُ الكاتب ليتأدب؟ وهنا يفصل كناوسغارد بين الأديب والإنسان باعتبارهما بعدين مختلفين في الشخصية نفسها، ولا أعرف إن كنتُ أتفق مع هذا، يبدو لي أنني أميل لتصديق الأديب أكثر، إذ أعرف خطورة بعض وسائل التواصل بين الناس، وكيف يمكن للكتابة أن تمثل طريقاً آمنة للتعبير عن الذات. لكن ليس هذا هو الهدف من كتابة هذا المقال، الفكرة هي الاحتفاء بالتعدد، والاختلاف، وتطبيع فكرة عدم نخبوية الكتابة! كان وجيه غالي سكيراً، مهووساً، ومعدماً، لكن لو أننا خسرنا فرصة التلاقي مع رؤيته للعالم، مع حماقاته، وأخطائه، لخسرنا أدبه أيضاً. أعدتُ قراءة قصة "الورود حقيقية" والتي صدرت ترجمتها العربية لوائل عشري عن دار المحروسة عام ٢٠١٩، بعد أن قرأتُ في اليوميات، إشارة لليوم الذي أنجز فيها غالي كتابتها وردة فعله الباردة على نشرها في الغارديان آنذاك، تبدأ القصة بأن كاتباً في ألمانيا قد باع ١٥٠ نسخة من كتابه الجديد، وبعث له ١٦ قارئاً أمريكياً إعجابه بالعمل، ورغبتهم في لقاء الكاتب في أمريكا، وبدت مخططات القراء كما لو أنها تتعامل مع فكرة بديهية، أن باستطاعة الكاتب السفر لأمريكا متى ما أراد ذلك! لكن كاتبنا هذا فقير جداً، ويعمل نظير ١٠ جنيهات في مصنع قريب من شقته كل أسبوع، حتى أنه أحياناً لا يستطيع صعود الحافلة للوصول إلى المصنع بسبب فقره، لكن إحدى القارئات قالت إنها ستزوره في ألمانيا، تخيل ومع قدرتها على زيارة أوروبا بأن تكون ثرية ولا شك! لذلك أخذ يستعد لهذا اللقاء عبر استعارة كل ما يرتبط بطقس الكتابة التقليدية بداية من مظهره وصولاً لترتيب الغرفة التي يكتب فيها، تأخرت الزائرة المنتظرة، لكنها جاءت أخيراً ودعته لمنزلها في دسلدوف، فوجئ بها وقد رتبت المكان وثيابها عبر استعارة الطقوس والمظاهر نفسها.