عوض بن سعيد باقوير* يبدو لي أن العقد القادم سوف يشهد تحولات استراتيجية على صعيد أولويات الولايات المتحدة الأمريكية وحتى الحلفاء في الغرب تجاه ما يمكن تسميته بالمواجهة الاستراتيجية بين واشنطن وبكين أهم قطبين الآن على الصعيدين الاقتصادي والاستراتيجي وهو الأمر الذي أصبح مثارا من خلال المفكرين والمنظرين في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، ومن هنا فإن المواجهة أو الصراع سوف يكون في مياه المحيط الهادي وليس الخليج العربي أو حتى البحر المتوسط رغم أهمية هذا الأخير على صعيد ثروة النفط والغاز المواجهة الكبرى خلال العقد القادم ومابعده سوف تكون بين عملاق الأطلسي الولايات المتحدة الأمريكية وعملاق آسيا الصين. ولعل الخلافات التجارية وقضايا المنافسة في مجال الاتصالات وفي المجال السيبراني وحتى التطور الصيني الملحوظ في المجال العسكري وفي مجال التمدد الاستثماري في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وحتى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أوجدت قلقا أمريكيا عبرت عنه الإدارات الأمريكية خلال العقدين الأخيرين على الأقل، وتمثل المواجهة في بحر الصين الجنوبي بين واشنطن وبكين وحلفاء أمريكا خاصة اليابان وكوريا الجنوبية كنوع من اختبار أو ملامح تلك المواجهة الاستراتيجية القادمة، حيث إن هناك تصريحات أمريكية تتحدث عن أن الصين هي المنافس والخصم الاستراتيجي لواشنطن وللحلف الغربي بشكل عام. ومن هنا فإن الحديث عن تراجع أهمية منطقة الشرق الأوسط بما فيها منطقة الخليج هو تحليل واقعي بعد أكثر من 7 عقود من الأهمية النفطية والاستراتيجية، الحديث عن إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان والعراق هو مقدمة أولية للاستراتيجية الشاملة نحو مياه الباسفيك. نحو مياه الهادي تظل الولايات المتحدة ذات امتداد بحري حيوي على جانبها الشرقي حيث المحيط الأطلسي الذي يربطها بالضفة الأخرى من المحيط مع الحلفاء في الغرب حيث حلف الناتو في بروكسل وهناك المحيط الهادي على جانبها الغربي، حيث الحلفاء في دول جنوب شرق آسيا والباسفيك، هناك استراليا ونيوزلاندا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها من نمور آسيا كالفلبين مثلا، ومن هنا فإن الصين بكل ثقلها السكاني الذي يقترب من مليار ونصف مليار نسمة وبكل طاقتها الإنتاجية الاقتصادية ونموها المتفرد خلال العقدين الأخيرين وتطورها الصناعي العسكري ومشاريعها التجارية كمشروع الحزام والطريق وقوتها الناعمة في مجال الاستثمار بإفريقيا وأمريكا الجنوبية تعطي مؤشرات بأن الأولوية في المواجهة الاستراتيجية سوف تكون بين واشنطن وبكين بالدرجة الأولى مع وجود روسيا وإن كانت بدرجة أقل لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى. الولايات المتحدة الأمريكية أنفقت أموالا تقدر بالتريليونات في مواجهتها العسكرية في الشرق الأوسط خاصة في حروبها بالعراق وأفغانستان علاوة على حماية الأمن والحلفاء في المنطقة وفي مقدمتهم الكيان الإسرائيلي لأكثر من 7 عقود وكان عامل الطاقة يلعب الدور المحوري في الاستراتيجية الأمريكية خاصة تجاه منطقة الخليج العربي. ومع اكتشاف النفط الصخري في الولايات المتحدة أصبحت واشنطن أقل اعتمادا على نفط الشرق الأوسط وهذا أوجد متغيرا جديدا عبر عنه الرئيس الأمريكي السابق ترامب عدة مرات وهو أن منطقة الشرق الأوسط لم تعد ذات أهمية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وأن الصين بشكل خاص هي الخصم الأهم في المستقبل حتى اعتبر ذلك مسألة وجودية لعدد من المفكرين في الولايات المتحدة الأمريكية على صعيد الأمن القومي الأمريكي. أولويات المرحلة وكما كانت مياه الخليج العربي ذات أهمية استراتيجية لأكثر من 7 عقود لأسباب تتعلق بالطاقة وحماية الكيان الإسرائيلي فإن ثمة أولويات بدأت في الظهور من خلال بحوث ودراسات في واشنطن ومن خلال نقاش علني وغير علني ولعل الصين أدركت ذلك مبكرا، وهو ما جعل الكل يجمع على أن العملاق الصيني يتحرك بأكثر مما ينبغي ليس فقط على الصعيد الاقتصادي ولكن على الصعيد التقني وفي مجال الاتصالات والأمن السيبراني وفي مجال غزو الفضاء وفي مجال القوة الناعمة حيث وجود القنوات الإعلامية الناطقة بعدة لغات ومنها اللغة الإنجليزية وأيضا اللغة العربية وحتى لغات عدة في العالم علاوة على استخدام الآليات الغربية في مجال الترويج والتسويق بعيدا عن الإيديولوجية الشيوعية، التي أصبحت مظهرا نظريا. الصين أصبحت تملك أكبر احتياطي نقدي في العالم بعدة تريليونات ،كما أن النمو الاقتصادي لايزال متواصلا، رغم فيروس كورونا، وأصبحت تشكل تكتلات اقتصادية مع دول إقليمية مثل دول جنوب شرق آسيا وإيران وروسيا وتركيا وباكستان وأفغانستان ودول الشرق الأوسط وشمال افريقيا. ومن هنا فإن الأولوية الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية تجاه الصين والقلق المتزايد له مايبرره في ظل بحوث تتحدث بأن الصين سوف تتربع على الاقتصاد العالمي خلال العقدين القادمين. ومن هنا بدأت الحرب التجارية بين واشنطن وبكين خلال السنوات الأخيرة وأصبحت الولايات المتحدة تضيق على شركات الاتصالات الصينية، وخاصة الهواوي، وأيضا شركات التكنولوجيا ومنع الشركات الأمريكية من التعامل معها.كل هذه الحرب التجارية والتقنية هي جزء من مواجهة استراتيجية شاملة قادمة بين عملاقي الاقتصاد العالمي. ورغم التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة ووجود شركات عملاقة أمريكية في الصين يبقى الهاجس الاستراتيجي موجودا خاصة وأن الولايات المتحدة تريد أن تبقى المظلة الاهم للاقتصاد العالمي ،حيث سوق وول ستريت والدولار أهم عملة في العالم والهيمنة على الصناديق المالية، مثل صندوق التقد الدولي والبنك الدولي، وهما أداتان للتحكم في اقتصاديات الدول النامية في اسيا وافريقيا وأمريكا الجنوبية وهي جزء من القوة الناعمة الأمريكية. وعلى ضوء ذلك فإن الصين تظل هي المهدد الاول للولايات المتحدة في المستقبل المنظور على الهيمنة الاقتصادية والتحول الرقمي والتقنية وحتى علوم الفضاء المواجهة الاستراتيجية لاتعني بالضرورة الحرب ،ولكن نحن نتحدث عن منافسة شرسة في ظل النظام القطبي الواحد الذي تقوده واشنطن وهو النظام الذي لن يصمد طويلا وهذا يعطي مؤشرات بأن الصين ومعها قوى دولية أخرى كروسيا تريد نظاما دوليا متعدد الأقطاب، وإصلاحا هيكليا في منظمة الأمم المتحدة ضمن نظام مالي دولي ينهي هيمنة الدولار. وبالتالي فإن المواجهة الاستراتيجية بين واشنطن وبكين تدخل في هذا الاطار مع دعم من روسيا وأطراف إقليمية أخرى. مسار المواجهة المواجهة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية لاتزال ملامحها تجارية وتقنية واتهامات حول حقوق اقلية الايجور المسلمة في الصين إضافة الى موضوع تايوان، ومع ذلك فإن المواجهة الشاملة هي من خلال خطط أكثر شمولية حول كيفية التعامل مع الصين في المرحلة القادمة وهل من الحكمة اتخاذ خيار المواجهة الاستراتيجية أو التعاون الحذر؟ ويبدو لي أن تصريحات عدد من المسؤولين في إدارة بايدن لديهم شعور بأن الصين تظل التحدي الاهم للولايات المتحدة الآن وفي المستقبل، وبأن الاندفاع الصيني يحتاج الى استراتيجية امريكية مختلفة لعل في مقدمتها انتقال الاولوية من مياه الخليج إلى مياه المحيط الهادي وبحر الصين الجنوبي، وان وجود الولايات المتحدة الأمريكية كقطب مهيمن على الاقتصاد الدولي بأدواته الناعمة أصبح محل شك بوجود اندفاع العملاق الآسيوي على كل المستويات. ومن هنا فإن العقد القادم سوف يشهد متغيرات استراتيجية في ظل مسار التحركات الامريكية نحو تغيير الجغرافيا السياسية بما يضمن مصالح أمريكا ووجودها على قيادة العالم، كما أن الصين لن تفرط فيما أنجزته خلال العقود الأربعة الاخيرة وهذا مايجعل المواجهة الاستراتيجية بينهما حتمية. ** صحفي ومحلل سياسي