عبدالله العليان -
مع انفتاح الشعوب على بعضها البعض في القرنين الماضيين، والتي كان لبعضها أهداف سياسية، واقتصادية، أو غيرها من الأهداف في عالم بدأ يقترب من بعضه البعض، والقصد منه التعرف عن قرب، على ثقافات وقيم وأسلوب حياة بعض الشعوب، أو غيرها من الأهداف الأخرى، والتي كانت لبعضها مرامٍ واستراتيجيات لم تكن معروفة، كرؤى للآخر الذي يؤدي معرفة الأنا والتعرف عليه واقعيا، وليس من خلال المؤلفات أو كتب الرحلات، أو الأحكام المسبقة التي يغذيها الصدام والصراع.
وعندما فكر الغرب بالأخص في اجتياح بعض دول الشرق الأوسط، أو الشرق الأقصى، والقيام بحملته الاستعمارية، جند قبلها العديد من الباحثين والمهتمين والاستراتيجيين، من مدنيين وعسكريين، وبعضهم من المبشرين بالديانة المسيحية، لزيارة دول الشرق ومدنه لدراسته والاستقصاء عن كل شاردة وواردة في حياته ومعيشته وعاداته وتقاليده الخ... وهو ما سميت بـ(المستشرقين)، وتعني معرفة الشرق، وللحق أن بعض المستشرقين والباحثين، جاؤوا للشرق، ليس من أجل التمهيد للحملة الاستعمارية أو الأغراض الأخرى التي كانت للبعض، كما حصل لغالبيتهم، فهؤلاء الذين لم يتم تجنيدهم، كانت أهدافهم علمية وفكرية خالصة، لمعرفة هذا الشرق التاريخي العريق، بحضاراته وأديانه التوحيدية والوضعية، وقدموا الكثير من الخدمات العلمية الجليلة للتراث العربي / الإسلامي بالأخص، وغيرها من الخدمات العلمية التي اتصفت بالنزاهة والإنصاف، بعكس ما كتبه بعض المستشرقين الذين تم تجنيدهم من حيث الكتابات المتحاملة، وبعيدة عن المنهجية العلمية، لأنها موجهة لأغراض وأهداف بعيدة كل البعد في أغلبها عن الكتابات المنهجية المنصفة، وقد أشرت إلى ذلك في بعض المقالات السابقة عن الاستشراق.
لكن بعض الباحثين والأكاديميين العرب، أرادوا تحويل الآخر ـ الغرب ـ إلى ذات مدروسة، أو إلى استشراق معكوس، ويسمى بـ (الاستغراب)، الذي يدرس الغرب من منطلق علمي ومنهجي، بعيداً عن استقطابات فكرية ماضية بين الشرق والغرب، أو تعقيبات على اختلالات الاستشراق وسلبياته، وقد كتب عنها بعض الباحثين الذين عاشوا في الغرب، وتعرفوا على الاستشراق من قرب. ومن هؤلاء الأكاديمي المعروف إدوارد سعيد.. لكن المفكرين والباحثين العرب المعروفين الذين بدأوا في الاشتغال في قضية دراسة الغرب، د. حسن حنفي، في كتابه الضخم:( مقدمة في علم الاستغراب)، ثم كتابه الثاني (ماذا يعني علم الاستغراب؟).
ويعد د. حسن حنفي أول من بدأ في طرح فكرة الاستغراب، أو دراسة الغرب، ثم تبعه العديد من الباحثين والكتاب العرب والأجانب أيضاً من زوايا مختلفة، للسير في هذا الاتجاه الفكري والمنهجي، والبعض من الكتاب والباحثين العرب، يرى أن هذا الاهتمام بالغرب أو دراسته، لن تكون له إيجابيات نستفيد منها، فقد أصبح في الغرب ملايين من العرب والمسلمين، الذين يعيشون في الغرب، وبعضهم يحمل جنسيته، فلا تعتبر دراسة الغرب مهمة وفائدة تذكر، بعد التداخل بين الشرق.
ولذلك سقطت مقولة الشاعر الإنجليزي«روديارد كبلنغ »التي قال فيها: إن (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا)، لأنه قد نسفها الواقع، لكونها مقولة أيديولوجية في ظرفية معينة، صحيح أن الاختلاف الفكري والسياسي والديني بيننا وبين الغرب، واقع لا اختلاف عليه، باعتباره سنة كونية، لوجود تمايزات بين البشر منذ الخليقة، إنما الالتقاء والتعاون في المشركات الإنسانية ضرورية ومهمة والخلاف يتم بالحوار والتفاهم والتفاعل.
لكن الهدف الحقيقي للاستغراب، ليس لرفض التقارب الإنساني مع الغرب، وإنما دراسة الغرب ومعرفته جيداً، من خلال فكره وفلسفته، ونهضته العلمية وكيف تحقق له ذلك، وموقف الغرب منا كعرب ومسلمين وماذا يريد الغرب من الشرق؟ ولماذا يصر على تغريب واقعنا؟ ونحن ماذا نحتاجه من الغرب؟
هذه القضايا والرؤى، هي ما أرادها الاستغراب للدراسة والبحث والاستقصاء. ود. حسن حنفي أكد أن هدفه من هذا الكتاب، هو معرفة الغرب كما هو، وليس كما كانت رؤية الاستشراق القديم الذي كان محملاً بأيديولوجية الاستعمار في تحليلاته ودراساته ومناهجه، إنما علم الاستغراب بحسب حسن حنفي، كمقابل للاستشراق، هو أن ندرس الغرب دون التحيز ضده و«يعبر عن قدرة الأنا باعتبارها شعوراً محايداً على رؤية الآخر، ودراسته، وتحويله إلى موضوع، وهو الذي طالما كان ذاتاً يحول كل آخر إلى موضوع. لكن الفرق هذه المرة هو أن «الاستغراب» يقوم على أنا محايد لا يبغي السيطرة، وأن بغى التحرر. ولا يريد تشويه ثقافات الأخر، وإن أراد معرفة تكوينها وبنيتها».
ولا شك أن الغرب، عندما اجتاح الشرق بقوة السلاح، لم يكتف بذلك الاحتلال والفرض والقسر لواقعه الاستعماري، وإنما أرد تغريب هذه الشعوب التي استعمرها، لفكره وفلسفته وتحويلها كتابع له في نظرته كما يعيشها هو، سواء في الجانب التعليمي، أو الثقافي، أو الاجتماعي أو غيرها، وهذا ما أشار إليه هاملتون جيب في كتاب (وجهة الإسلام)، والذي اشترك فيه «هاملتون جيب» مع بعض المستشرقين الآخرين، عن هدف تحقيق التغريب من خلال التعليم والثقافة.
ويصوّر د. حسن حنفي في مقدمة الكتاب، الذي حمل عنوان (الاستغراب في مواجهة التغريب)، كيف كانت أهداف الغرب فيما بعد الاستعمار، مع أن شعاره الذي رفعه، كالمستشرقين أن هدفه انتشال الشرق مما هو فيه من التخلف والتراجع والأمية، لكن هذا القول يخالف ما سار عليه بعد ذلك، من حيث إلحاق المنطقة كلها إلى تابع ومتبوع، ولذلك كما يرى حنفي في هذا الكتاب إن التغريب «امتد أثره ليس فقط إلى الحياة الثقافية وتصوراتنا للعالم وهدد استقلالنا الحضاري بل أمتد إلى أسليب الحياة اليومية ونقاء اللغة ومظاهر الحياة العامة وفن العمارة، صاحب الانفتاح الاقتصادي في الرأسمالية العالمية الانفتاح اللغوي على الألفاظ الأجنبية. فكل كلمة عربية تتجاوز عقدة نقصها بإلحاقها بكلمة غربية».
ويعلق الباحث العراقي د. محمد سالم سعد الله، في دراسته (جدلية الأنا والأخر من تحليل الاستشراق إلى تفعيل الاستغراب)، أن مسألة دراسة الغرب أصبحت ضرورية، من ناحية السعي إلى إيجاد توازن في مسألة المعرفة بين الذات والآخر، كما أن ظاهرة التغريب، كما أشار إليها د.حسن حنفي: «تستدعي نشاطاً علمياً حيوياً معاصراً لمناقشة قضاياها، والرد على دعواتها، وفحص أركانها، وبيان مغالطاتها، والتحذير من نتائجها، نظراً لإمكانياتها في رفع الشعارات العلمية بضرورة اتباع الغرب للوصول إلى ما تصبو إليه الأنا من التطوير والتحديث!!».
وهذا ما أشار إليه د. حسن حنفي في هذا الكتاب، مما حدث لواقعنا العربي حضارياً وواقعياً من خلال التأثير الكبير، الذي أحدثه الغرب، بعد استعماره، حيث تكاد الكثير من مقومات ثقافتنا أن تمحى من رؤيتها الذاتية، إلى رؤية غربية في الكثير من معطياتها و:« تحولت مساحة كبيرة من ثقافتنا المعاصرة إلى وكالات حضارية للغير، وامتداد لمذاهب غربية اشتراكية، ماركسية، ليبرالية، قومية، وجودية، وضعية، شخصانية، بنيوية، سيريالية، تكعيبية..الخ حتى لم يعد أحد قادرًا على أن يكون مفكرًا أو عالمًا أو فنانًا إن لم يكن له مذهب ينتسب إليه. ووضعنا أنفسنا أطرافًا في معارك لسنا أطرافًا فيها، وتفرقنا شيعًا وأحزابًا كما تفرق القدماء من ذواتهم، ولكن فرقتنا هذه المرة لم تكن موقفًا من الذات بل تبعية للآخر. ضاعت وحدة الثقافة الوطنية، والكل يبحث عن الأصالة الضائعة ويجدها البعض في الفنون الشعبية ».
وهذا ما تم حقيقه من آثار الاستعمار الذي لا شك أنه استطاع أن يؤثر في النخبة التي درست في الغرب..
وللحديث بقية...