د. عبدالحميد الموافي - ليس من المبالغة في شيء القول إن سوريا، الشعب والدولة، حظيت، ولا تزال تحظى بمكانة متميزة سواء في التاريخ والثقافة العربية، أو في نفوس الكثيرين من العرب، خاصة هؤلاء الذين يدركون أهمية وقيمة ما قامت به سوريا في مراحل التاريخ العربي المختلفة، وما يمكن، بل ما يجب، أن تقوم به في الحاضر والمستقبل العربي، بغض النظر عن ما تعرضت له خلال العشرية السوداء منذ عام 2011 حتى الآن. ومع إدراك ما تثيره أحداث تلك العشرية السوداء من جدل، سواء بالنسبة لسوريا، أو بالنسبة للدول العربية الأخرى، التي اكتوت بما سمي بالربيع العربي الذي تتضح بعض ملامحه ودوافعه التحتية شيئا فشيئا، فإن محاولة تفكيك الدول العربية الأكثر تأثرا بكرة النار تلك، والتي تمت تغطيتها بشعارات الحرية ومطالب وتطلعات الجماهير العربية في حياة أفضل، لم تكن محض مصادفة، ولم تكن سوى أجندة مصالح لقوى إقليمية ودولية، سرعان ما كشفت عن أنيابها ومطامعها السافرة في الجسد والإمكانات العربية، في سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها، ومع عدم استبعاد نظرية المؤامرة، إلا أن ذلك لا يعفينا كعرب من المسؤولية، سواء على مستوى الأوطان المختلفة، أو على المستوى الجماعي العربي، الذي تمثله جامعة الدول العربية، على الأقل في بعض جوانبه. ومن ثم فإننا كعرب علينا أن نتحمل بوعي مسؤوليات النهوض والعمل على الخروج من تبعات ما حدث، والتهيئة للسير بخطى حقيقية وعملية لتحقيق المصالح الفردية والجماعية العربية، كسبيل لا غنى عنه لصيانة مصالحنا وحماية مواردنا وتأمين مستقبل شعوبنا وحقها في صياغة مستقبلها على النحو الذي تريد. من المؤكد أن لا أحد يمكن أن ينسى أن سوريا هي من احتضنت الدعوة القومية العربية منذ بدايتها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأنها حملت لواء الدعوة القومية والدعوة للوحدة العربية على امتداد القرن الماضي، ومواقفها عند تأسيس جامعة الدول العربية معروفة ومسجلة، وكذلك طلبها للوحدة مع مصر في أواخر عام 1957 وأوائل عام 1958 معروفة وعلى أثرها ظهرت الجمهورية العربية المتحدة كوحدة بين مصر وسوريا، وهو ما ألّب كل الأطراف العربية والإقليمية والدولية المتوجسة ضد هذه الوحدة حتى انفصالها عام 1961. وقد ظلت سوريا داعية للحد الأقصى الممكن من الوحدة والتعاون والتنسيق بين الدول العربية، وبإخلاص عميق واستعداد للتضحيات الخاصة بذلك، برغم أي ظروف، ومن ثم فإن شعبها العريق شعبا عروبيا بالمعنى الكامل لذلك، بغض النظر عن رواسب العلاقات والتطورات العربية وما تلقي به من ظلال على العلاقات بين الأشقاء في مرحلة أو أخرى. وإذا كانت الشعلة السورية قد خبت، بفعل تطورات العشرية السوداء، منذ عام 2011 حتى الآن، إلا أن سوريا العروبة ظلت باقية ووفية أيضا، وهي تسعى جاهدة لاستعادة قواها واستجماع قدرتها على النهوض مرة أخرى، بدعم ومساندة من جانب المخلصين من أشقائها، ومنهم بالتأكيد سلطنة عمان، التي أبقت على سفارتها في العاصمة السورية مفتوحة، ولم تغلقها طوال السنوات الماضية، عندما أغلق بعض الأشقاء سفاراتهم في دمشق، لأسباب معروفة أثبتت التطورات والأحداث خطأها، وهو ما دفع البعض إلى إعادة فتح سفاراتهم مرة أخرى هناك في العامين الماضيين وتحديدا منذ أواخر ديسمبر عام 2018. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: إن خبرة التعامل العربي مع سوريا، بعد أحداث درعا عام 2011، هي خبرة سلبية في مجملها إلى حد كبير، ليس فقط لاحتضان بعض الدول العربية لفصائل وجماعات وتنظيمات المعارضة السورية ورعايتها وتكتيلها ضد الحكومة والقيادة السورية الشرعية، ولكن أيضا لتعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، وقيام بعض الدول بمنح سفارة سوريا لديها لتنظيمات المعارضة السورية. صحيح أن سوريا رفضت أن تناقش جامعة الدول العربية الشأن السوري، ورفضت طرح المشكلة على جامعة الدول العربية، وهو أمر له أسبابه من وجهة النظر السورية، ولكن الصحيح أيضا أن موقف جامعة الدول العربية في التعامل مع سوريا وصل إلى حد إرسال مراقبين عرب إلى سوريا بدون تنسيق مع الحكومة السورية، وكأن الأراضي السورية مشاع!!، وهو ما ترك جرحًا عميقًا لدى دمشق وأغلق الطريق أمام إمكانية تجاوز هذا الخطأ من جانب جامعة الدول العربية في التعامل مع سوريا، التي لا يزال مقعدها شاغرا في الجامعة حتى الآن. والمفارقة أن سوريا الدولة لا تزال تحتفظ بعضويتها في الأمم المتحدة وكل منظماتها. وبغض النظر عن دوافع هذا الطرف العربي أو ذاك، والأسباب التي دفعت لاتخاذ تلك المواقف من جانبه، وهو ما اتضحت بعض أبعاده من خلال ما تم الإفصاح عنه من جانب مسؤولين كبار في بعض الدول العربية، فإن مرور عدة أعوام على المأساة السورية، والفشل في استخدام ورقة المعارضة السورية ضد الحكومة الشرعية السورية، وتعدد القوى الإقليمية والدولية المتورطة في الحرب السورية، أقنع الكثيرين من العرب بخطأ الخطوات التي تم اتخاذها بعد أحداث درعا ومنها العمل على تغيير النظام بالقوة المسلحة، ولذا بدأت أطراف عربية في إعادة النظر في مواقفها وحساباتها ليقينها من عدم نجاح ما اتخذته من مواقف وسياسات، ولذا قام بعضها بإعادة فتح سفارته في العاصمة السورية، وقلل البعض الآخر من دعم واحتضان المعارضة السورية، خاصة أن تقاطعات الصراع على الأرض السورية كان أكبر منها ومن قدرتها على التأثير القوي فيه. ولعله من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الموقف العماني ظل على مدى السنوات العشر الماضية، وكعادته، موقفا مسؤولا وبعيد النظر، ورافضا بوضوح لأي محاولة للتدخل في الشؤون السورية، أو التورط في العمل ضد الحكومة والقيادة السورية الشرعية، وهو ما تقدره سوريا القيادة والحكومة والشعب. وحتى عندما زارت بعض قيادات المعارضة السورية مسقط، فإن ذلك كان في إطار محدد ومعلن وهو البحث عن حل للمأساة السورية، وبما يحفظ لسوريا وحدتها الإقليمية ووحدة شعبها. ولأن السفارة العمانية في دمشق ظلت مفتوحة فإن تقديم السفير العماني لأوراق اعتماده للرئيس السوري بشار الأسد كان تطورا طبيعيا في إطار العلاقات التي شهدت زيارات متبادلة بين الدولتين على مدى السنوات الأخيرة. وتجدر الإشارة إلى أن السلطنة لم تؤيد تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، وأنها مع استعادة سوريا لمقعدها في الجامعة، ليس فقط لأن سوريا دولة مؤسسة للجامعة العربية، ولكن أيضًا لأن استعادة سوريا لمقعدها في الجامعة والاحتضان العربي القوى لها من شأنه الإسهام في حل المأساة السورية، والحد من التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن السوري. أما القول أو الادعاء بأن عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية يحتاج إلى توافق عربي، لم يتوفر حتى الآن، فإن ذلك أقرب إلى الحق الذي يراد به باطل، في ضوء ما هو معروف عن آليات العمل العربي المشترك في إطار الجامعة العربية، والصحيح أن هناك، حتى الآن على الأقل، دولا عربية مؤثرة لا تتحمس ومن ثم لا توافق على عودة سوريا إلى حاضنتها العربية لأسباب مختلفة. ثانيا: إنه إذا كانت الاتصالات العمانية السورية لم تتوقف على امتداد السنوات الأخيرة، فإن الزيارة التي يقوم بها وزير الخارجية والمغتربين السوري الدكتور فيصل المقداد لمسقط في الأيام الأخيرة تعد على جانب كبير من الأهمية، سواء على صعيد العلاقات الثنائية بين السلطنة والجمهورية العربية السورية الشقيقة، والتعاون بينها في المجالات المختلفة، أو على صعيد الجهود المبذولة لتحريك التسوية السلمية في سوريا والتوصل إلى حل يوقف المعاناة والاستنزاف السوري الدائم والمتواصل على مدى السنوات العشر الأخيرة، ويسمح في الوقت نفسه بفك الاشتباك بين القوى المتصارعة على الساحة السورية، وتأمين انسحاب القوى الأجنبية والميليشيات العابرة للحدود من الأراضي السورية، واستعادة سوريا سيطرتها على كل ترابها الوطني، وهو ما يجري العمل من أجل التهيئة له في الآونة الأخيرة. وإذا كان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف قد قام قبل أيام بزيارة إلى كل من الرياض وأبوظبي والدوحة، كما قام وزير الخارجية التركي بزيارة للدوحة، وهو ما كانت الأوضاع السورية في صلب كل تلك المحادثات، فإن زيارة وزير الخارجية السوري إلى مسقط تتيح الفرصة في الواقع للوقوف على وجهة النظر السورية، وما تتطلع إليه سوريا وتريده من ناحية، وما هو ممكن أيضا من ناحية أخرى، خاصة في ظل تنافس وتعدد مسارات الحل في سوريا بين مسار جنيف، ومسار استانا، ومسار الدوحة، وهي مسارات لم تتح فيها الفرصة لمشاركة الحكومة السورية فيها برغم أنها صاحبة المصلحة النهائية في الحل، وأنها السلطة التي ستقوم بتطبيق الخطوات التي يتم التوصل إليها والتي ستقبلها هي للحل في النهاية. ومع أنه من المعروف أن السلطنة لا تبحث عن دور، ولا تتطلع إلى احتلال عناوين الأخبار، ولكنها تبحث بإخلاص عن كل ما يمكن أن يساعد الشقيقة سوريا في تجاوز المحنة، فإنها -أي السلطنة- يمكنها القيام بدور له أهميته في ربط الخيوط، وتأمين درجة أكبر من التوافق بين الأطراف المعنية بالمأساة السورية، إقليميًا ودوليًا بما في ذلك الإدارة الأمريكية الجديدة، لحلحلة الجهود ومحاولة التوصل إلى توافق ولو مبدئي للسير على طريق الحل، وما يساعد السلطنة على النجاح أنها موضع ثقة كل الأطراف، وأن جهودها وتحركاتها ليست مرتهنة لصالح طرف إقليمي أو دولي محدد، ولكنها تبحث وتعمل من أجل مصلحة الشعب والدولة السورية والحفاظ على وحدة الشعب والأرض السورية بعد معاناة العشرية السوداء. ثالثا: إنه في الوقت الذي تتعدد فيه مستويات الصراع وتقاطع المصالح على الأرض السورية من محلية (الحكومة السورية وفصائل المعارضة المتنوعة والمختلفة مع بعضها البعض)، وإقليمية (إيران وتركيا وإسرائيل بالطبع إلى جانب بعض الأطراف العربية)، ودولية (روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وأطراف أوروبية)، وفي حين تحظى روسيا وإيران بموضع قوي على الساحة السورية، فإن تركيا تريد زيادة نفوذها وتواجدها العملي على التراب السوري وإنشاء منطقة عازلة داخل الأراضي السورية على الحدود معها، أما إسرائيل فإنها تريد مغادرة إيران لسوريا في أسرع وقت وحرمانها من أي تواجد مؤثر في سوريا يمكن أن يتحول ضد إسرائيل في ظرف أو آخر، أما واشنطن فإنها تريد الاستمرار في شرق سوريا، في إطار الحرب على الإرهاب من ناحية وعدم ترك الساحة لروسيا من ناحية ثانية. وبرغم التحركات الدبلوماسية الحثيثة والمتعددة الأطراف، والهدوء النسبي في العمليات العسكرية، ومحاولات الإعداد لاجتماع اللجنة الدستورية المعنية بوضع دستور سوري جديد، إلا أنه يمكن القول بأنه لا تزال هناك حاجة لمزيد من الجهود والتحركات لحمل الأطراف المختلفة على التوافق على ضرورة السير على طريق الحل السلمي. ولعل النجاح في ليبيا يعزز الرغبة في النجاح في سوريا، إلا أن ذلك سيتوقف بالتأكيد على قدرة الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية على تحديد خطوط التقاء المصالح فيما بينها، ولعل السلطنة تنجح في الإسهام الملموس في هذا المجال، حتى يمكن استعادة سوريا، وإعادتها إلى حضنها العربي، وهو ما أصبح ضرورة لصالح سوريا الشعب والدولة، ولصالح العرب أيضا، وفي النهاية ستعود سوريا ولعل ذلك يكون قريبا.