كيف بحث اليابانيون عن أسباب القوة عند الأمم الأخرى واستفادوا منها ليكملوا ما ينقصهم؟ تأليف : إييناغا سابورو عرض وتحليل : إميل أمين - عن المركز القومي للترجمة في القاهرة صدر حديثا هذا العمل الشيق الذي يلفت انتباهنا إلى الجذور الثقافية لليابان، والكتاب من تأليف البروفيسور «إييناغا سابورو» أستاذ تاريخ الفكر الياباني الذي يعمل حاليا كأستاذ شرفي بكلية التربية جامعة طوكيو ومن مواليد عام 1919، ومن ترجمة الدكتور علاء علي زين العابدين أستاذ مساعد بقسم اللغة اليابانية كلية الآداب جامعة القاهرة. ماذا تعني كلمة ثقافة للمؤلف؟ عند المؤلف كلمة تاريخ الثقافة تستخدم بمعان كثيرة. فحين نقف عند التفكير القائل إن التاريخ هو الشيء الذي يصف تطور الثقافة، أي حركة الإنسان فإن تاريخ الثقافة سيكون بنفس معنى التاريخ. في هذه الحالة فإن تاريخ الثقافة سيعبر عن وجهة نظر التاريخ، وليس شيئا يشير إلى مجال بعينه داخل التاريخ. فالسياسة والاقتصاد أيضا كلها في حدود حركة الإنسان، تدخل في الإطار نفسه باعتبار أنها تشكل محتوى تاريخ الثقافة. وهناك طرق تفكير مختلفة تدور حول تحديد تاريخ الثقافة بمعنى ماهية الثقافة التي يبدو أنها تأتي من الاختلاف في طريقة تحديد هذا المعنى. فإذا استخدمنا الثقافة بمعنى أكثر اتساعا؛ فلأن حركة الإنسان التي تختلف عن الطبيعة كلها تعني الثقافة، وبالتالي فإن تاريخ الثقافة سيعني التاريخ كما ذكرت من قبل، وهو الذي يشكل هذه الطريقة. لماذا يؤمن اليابانيون بحتمية التاريخ وطلاقة الماضي، عكس الغرب الذي يؤمن بحتمية الحاضر ؟ ما الذي يدعو الشعب الياباني لأن يكون قليل الشكوى ومحبا للصمت وكثرة العمل طوال الوقت ؟ لكن الثقافة ليست هذا المعنى الواسع فقط، فأحيانا تستخدم باعتبارها كلمة تشير إلى مجالات العلوم والفن والديانة والفكر والأخلاق وغيرها، لكن إذا تكلمنا عموما فإنها عادة ما تستخدم في هذا المعنى الضيق. وموضوع هذا الكتاب «تاريخ الثقافة اليابانية» يحاول أن يوضح هذا المعنى. لكن في الواقع، إن النظر إلى تاريخ الثقافة اليابانية كلية عمل شاق جدًا. باختصار يوجد الكثير من الجزئيات في داخل مفهوم الثقافة. وكل جزء على حدة له متخصص وتجرى دراسات تفصيلية عليه، ودون شك فإن معرفة كل هذه النتائج مستحيل في الغالب. فعلى الرغم من أن الدراسات الدقيقة تجرى جزئيا، ولأن الدراسات المجمعة الشاملة تبدو فقيرة، فإن النظرة الأكثر شمولية تبدو متعثرة. فإذا ما وزعنا العمل بحيث يكون لكل جزء متخصص، فسنحصل على نتائج سليمة جزئيا لكن حتى ولو أنجزنا قاموسا على شاكلة قاموس الثقافة اليابانية، فإنه من الصعب أن نلقي نظرة واسعة على تطور الثقافة اليابانية. ولكي نكتب تاريخ الثقافة اليابانية بشمول فإن المشكلة الحقيقية تكمن في هذه الصعوبات التي تعترضنا. ليس هذا فحسب، إنما السؤال هو: هل طريقة تناول تاريخ الثقافة اليابانية باعتبارها تاريخا مكتملا قد استوفت أركانها؟ الثقافة اليابانية بمعناها الضيق إن الثقافة بمعناها الضيق عند صاحب الكتاب هي المجال الذي يطلق عليه البناء العلوي من التاريخ. إذا افترضنا أن تطور القوة الإنتاجية للمجتمع الإنساني وتطور هذه العلاقة الإنتاجية هي الأساس، وأن طرق التفكير في العلوم والفنون والأديان تبنى فوق ذلك، وإذا وضعنا تاريخ هذا الأساس جانبا، فهل سيكون بإمكاننا أن نجمل تاريخ الثقافة فقط باعتباره قضية أخرى؟ والأكثر من ذلك حتى وإن تبنينا هذا الموقف أيضا، فإن عالم البناء العلوي حتى وإن كان مدعماً بهذا الأساس بشكل جذري، فنحن لا يمكن أن ننكر أن له حركة مستقلة في إطار معين، وبالتالي فإذا وضعنا ذلك فقط في اعتبارنا، فإن ذلك لا يعني أن الثقافة لا يمكنها أن تكتب التاريخ بصفة أساسية. ورغم ذلك فإن قطاعات متعددة داخل الثقافة كالعلوم والأديان والفنون، داخلها قطاعات خاصة مفصلة، فمثلا الفنون بها الفنون الأدبية والفن التشكيلي، بداخله كذلك نجد أن الفن التشكيلي يضم الرسم والنحت والفن اليدوي. علاوة على ذلك فالفن اليدوي يضم صناعة الذهب وصناعة الأخشاب، والغزل وغيرها من القطاعات الأخرى. ولأن- كل قطاع لديه تحرك ذاتي في إطار ما، فمن هنا فإننا يجب أن نقول إن محاولة تدوين تاريخ الثقافة اليابانية ككل بشكل مجمتع، هو موضوع صعب من حيث المبدأ. وعليه، فإنه على الرغم من وجود صعوبات مختلفة فعليا ونظريا، فإننا لا يمكن أن ننكر وجود حاجة لمعرفة تاريخ الثقافة اليابانية إجمالا. ومن الواضح أن إمكانية فهم تاريخ الثقافة اليابانية جملة لم يحن وقته بعد. إن الفهم من وجهة نظر أوسع، حتى وإن كان من الصعب توقع ذلك بدقة بدرجة المتخصصين على نحو تفصيلي، فإنه يجب علينا أن نقول إن ذلك في حد ذاته له ضرورة أخرى. إذا اتسعت النظرة الشاملة لتاريخ الثقافة اليابانية، فليس بالضرورة أن تتسع القضايا والرؤى الجديدة في الدراسات المتخصصة لكل قطاع. فبخلاف المدخل أو الدور الذي يلبي الاهتمامات العامة يوجد في هذه المقدمة المختصرة هذا الدور أيضا. علاقة الثقافة اليابانية بالإنسان إن الثقافة هي الإنسان بمعنى المجتمع أو الفرد الذي يشكله والذي صنعها، ولأنه المتلقي لها فإننا نجد في الثقافة ثلاثة جوانب: الفعل الذي أنتج الثقافة، والشيء المنتج، والجانب المتلقي لها. وعلى الرغم من أن تشابك تلك العناصر الثلاثة بعضها ببعض فإن كل عنصر منها مستقل إلى حد ما. إذن يمكن تعقب أثر تطور الثقافة بالتركيز على هذه العناصر الثلاثة. إن الفعل أو الحركة التي أنتجت الثقافة تقوم على أساس الحاجة التي يتطلبهما المجتمع أو الفرد أو عبر نشاط المجتمع أو الفرد، أو بأي مادة وطريقة تشكلت.أما الشيء المنتج فهي الثقافة التي تشكلت: أي شخصية وأي تركيب وأي دور تحمله؟ أما المتلقي: فكيف تلقى هذه الثقافة المنتجة؟ وبأي كيفية ادخلها وتلقاها وبالتالي أفادته؟ فوق ذلك أي إسهام قدمه ليصنع الثقافة التالية؟ عن تاريخ اليابان وتقديم المترجم لعل أفضل السطور في هذا العمل تلك التي قدم بها الدكتور علاء زين العابدين للكتاب وقد بان جليا تمرسه في فهم الثقافة والحياة والفكر في اليابان وعنده انه من السابق لأوانه التكهن بأن تاريخ اليابان بشكل عام، وتاريخ الثقافة اليابانية بشكل خاص قد نالا من الفهم والدراسة، بحيث نجزم بأن القارئ العربي لديه تصور كامل لحركة التاريخ اليابان. ويضيف: مما زاد من يقيني من هذه الحقيقة قلة الباحثين الحريصين على تأمل الأحداث التاريخية منذ فجر التاريخ، التي عاش المجتمع الياباني أجواؤها لحظة بلحظة. من هنا يكمن الواقع مكان الخيال وتحل الأدلة محل التخمين.فدراسة التاريخ الياباني ليست هي دراسة آراء مرسلة مستوحاة من خيال الباحثين الجدد، بل هي قائمة على المشاهدة الفعلية والتمحيص للدلائل القائمة.وقد لمست هذا بنفسي حينما كنت طالبا بالدكتوراه بقسم التاريخ والأنثروبولوجي، بجامعة تسوكوبا، حيث كان أساتذة القسم يصحبوننا أسبوعيا لمعاينة الأماكن التاريخية لكل عصر من عصور التاريخ، ويشرحون لنا على أرض الواقع ما كان يجري من وقائع تاريخية، بحيث يترسخ في وجداننا حقائق التاريخ والجغرافيا. ولقد عانيت -مثل غيري- من الطلاب الأجانب القادمين من الشرق الأوسط من صعوبة قراءة المخطوطات اليابانية الأصلية ومحاولة فهمها، نظرا للتغيرات التي طرأت على اللغة اليابانية خلال الـ100عام الماضية، بحيث نجد فهمها أشبه بدراسة لغة أجنبية أخرى.لكن الإصرار على فهمها وطلب المساعدة من زملائنا اليابانيين يسرا لنا هذه المهمة القاسية، وضاعفا من إحساسي بأهمية ذلك لفهم الحاضر والمستقبل لهذه الأمة الناهضة. ولقد كان لأساتذتي بهذا القسم الفضل الكبير في تدريبي على استخلاص الحقائق وترتيبها، حيث نجحت بفضل هذه الجهود في الحصول على أفضل النتائج.ولقد كان من نتيجة هذه الدروس المستفادة أن قرأت كتاب «تاريخ الثقافة اليابانية» للأستاذ إييناغا سابورو، الذي يعد بحق علما من أعلام تاريخ الفكر والفلسفة اليابانية في الـ50عاما الماضية.ولقد عانيت كثيرا لفهم المصطلحات التاريخية والفلسفية القديمة نظرا لارتباطها بديانات قديمة ولم تعد تستخدم لغتها في الوقت الحالي، مما استنزف كثيرا من الوقت لتبسيطها للقارئ العربي. ومما زاد من إصراري على إتمام هذا العمل الشيق المهم، شعوري بأنني أؤدي رسالة قومية نحو التقارب بين الشعوب نظرا لعدم حرص الدراسين لهذه اللغة على ترجمة الأعمال الثقافية والتاريخية العميقة الجذور، والتي تدين بالفضل للماضي الجميل، والتي تكشف أسرار الكمال والجمال لهذا الشعب الغامض الساحر. نعم هناك فلسفة حياتية تعكس مدى ارتباطهم بحياة القدماء حتى وإن لم يكونوا ناطقين بذلك، لكنهم يحملون هذا الإرث التاريخي في أعماق وجدانهم. فاعلية التاريخ في حضارة الشعوب إن كتاب (تاريخ الثقافة اليابانية) للأستاذ إييناغا سابورو، قد نحت فيَّ شعورًا عميقًا بفاعلية التاريخ في حضارة الشعوب وتكوين شخصية الإنسان.فقد نقلنا عصرا تلو عصر مشاهدين لآثار حركة التاريخ التي صنعها الإنسان الياباني جبرا كان أم طواعية. ولقد عبر المؤلف في مقدمة هذا الكتاب عن صعوبة مهمته، لكنها المحاولة الجادة لصياغة جديدة لتاريخ الثقافة اليابانية بعد أن كانت تتراص داخل تاريخ اليابان دون تمييز باعتبارها جزءا منه. وها قد خرج هذا المؤلف إلى النور في طباعته المتكررة لتعلن ميلاد فرع جديد من فروع علم التاريخ الياباني. إن التفسير التاريخي لكلمة (ثقافة) يختلف عن التفسير اللغوي لها، وإن كانا متلازمين في بعض الأحيان، فالثقافة جاءت في الأصل من العلم والتعلم والمهارة في الفهم والإدراك، وقد اجتمعت في الشخصية اليابانية كل هذه المعاني، فالشعب الياباني شعب فضولي يعشق المعرفة منذ القدم، ويضع العلم بالجديد في أوج اهتماماته الحياتية، وقد يكون هذا إحدى السمات الحسنة التي جعلت منهم أمة رائدة في مجالات البحث العلمي واستكشاف التاريخ والبحث عن كل جديد مما يجعل منهم أمة جديرة بالاحترام والثقة، فهو شعب لا يتوانى عن معرفة كل جديد عن الشعوب الأخرى مهما كانت متأخرة عنهم، لأنهم يؤمنون بحتمية التاريخ وطلاقة الماضي، عكس الغرب الذي يؤمن بحتمية الحاضر وطلاقة القدرة الإنسانية دون اعتبار للماضي مهما كانت أسراره الباهرة. انك تجد منهم اهتماما بالماضي وأسراره، واعتقادا في سر قدراتهم مهما دار الزمان، ويتجلى هذا الموضوع في انبهارهم الشديد وولعهم الزائد بالحضارة المصرية القديمة وحرصهم على الإسهام في البحث عن أسرار الأهرامات بكوادرهم العلمية والفنية المدربة، وما هذا إلا لإيمانهم بالماضي وسحره المتواصل. ونظرًا لإحساس اليابانيين بضآلة تاريخهم بالمقارنة بحضارات أخرى قريبة أوبعيدة، فقد دأبوا على البحث عن أسرار هذه الحضارات من حيث البعد الإنساني والعلمي، فوجدوا أن سر هذه الحضارات يرجع إلى الاهتمام بالعلم من ناحية، والبعد عن الصراعات من ناحية أخرى. لكن هناك شكا كان يساورهم دائما حول العنصر الإنساني الذي أنتج هذه الحضارة، مما دفعهم إلى البحث والسعي لاستكشاف هذه النظرية التي روج لها الأوربيون منذ العصر الحديث حول سيادة الجنس الأوروبي ودونية ما عداهم أجناس أخرى، لكن اليابانيين لم يكونوا ليقتنعوا بهذه الدعاية العنصرية الساذجة بدليل وجود حضارات أخرى غير أوروبية مازالت آثارها قائمة إلى اليوم ولا تزال محل بحث ودراسة إلى اليوم، ولم تستكشف كل أسرارها حتى الآن. لقد اندفع اليابانيون ليجدوا ضالتهم المنشودة لفهم سر التاريخ ونشأته، وليؤسسوا نظريتهم في الحضارة والتقدم. إيمان اليابانيين بالعلم والمعرفة إن التاريخ ليثبت يوما بعد يوم أن التقدم لم يكن وليد المصادفة في يوم من الأيام، بل كان نتاج تجارب الشعوب القائمة تارة على الحاجة للحياة الكريمة، وبالتالي البحث عن مصادر الثروة التي تؤمن للإنسان أسباب الحياة والبقاء، وتمنع عنه أسباب الموت والاندثار. وبالتالي فإن هذه التجارب كانت تضمن للإنسان الحصول على المعرفة الكافية لقيام هذه الحياة. لقد آمن اليابانيون بالعلم والمعرفة، وبالتالي تطورت حياتهم في كل عصر لتناسب احتياجاتهم الوقتية وتؤمن مستقبلهم المجهول.وبداية فإن إيمان اليابانيين بحتمية التاريخ وطلاقة القدرة الإنسانية جعلتهم لا يدخرون وسعا في البحث عن هويتهم الثقافية والإنسانية والبيولوجية أيضا، متمسكين بسلاح العلم التقني التجريبي الذي جعل من الوصول للحقيقة أمرًا مؤكدًا، ولم يستعينوا إلا بسلاح التجربة العلمية، وإن كانت تجارب التاريخ تؤكد استعانة اليابانيين بالخبرات الأجنبية أحيانًا للحصول على خبراتهم. وقد وجدنا هذا في مذكرات الكهان الذين أوفدوا إلى الهند والصين قديما، كذلك الحال في رحلة رواد الفكر والسياسة اليابانيين إلى أوروبا لاستكشاف العالم في القرن الثامن عشر.والشعب الياباني تنطبق عليه مقولة (اطلبوا العلم ولو في الصين)، وهي المقولة التي طبقها المسلمون الأوائل فسافروا إلى جميع بلدان العالم بحثا عن العلم، لإيمانهم بأن ذلك يقربهم إلى الله. لكن اليابانيين كانوا يبحثون عن أسباب القوة عند الأمم الأخرى ليستفيدوا منها وليكملوا ما نقصهم دون استنكاف أو تعال. ولا شك أن الأمة اليابانية تختلف عن سائر الأمم الآسيوية بـ«خلق الحياء» هذا الخلق الرفيع الذي جعلها مضرب الأمثال في السمو والتسامي والاحترام والطاعة وعدم الخروج عن المألوف. ولأن الحياء يعد أعلى فضيلة عند اليابانيين، وعليه تدور سائر العلاقات الاجتماعية بل السياسية والاقتصادية، فقد ساد المجتمع روح من السلام الاجتماعي والاستسلام الإيماني لكل ماهو مقدر بفعل هذا الحياء. ولو أن المعترضين من ذوي الاتجاهات الغربية قد يئسوا من فهم هذا الرضوخ الغريب لهذا الشعب لأوامر قادته، والطاعة السلبية لكل ماهو صواب أو خطأ دون أن يعملوا عقلهم لفهم فضيلة الحياء عند هذا الشعب. ولقد واكبت هذه الفضيلة كل مراحل الصعود والهبوط عبر تاريخهم المتصل والمملوء بالكفاح من أجل البقاء، والتميز القومي مما جعلهم مضرب الأمثال في النجاح في أوقات السلم والحرب. وقد لا يفهم الغربيون على وجه الخصوص قيمة الحياء عند اليابانيين، ويبالغون في إلقاء اللوم على هذه الأمة، لأنها تؤمن بالحياء أكثر من إيمانهم بعدم الإصغاء. إن الأمة اليابانية لا تجد في الجدل قيمة أو مضمونا، لأنها تستحي من خدش حياء الآخرين، وبالتالي خدش مشاعرهم وتعكير صفو علاقتهم القومية. إن من لا يفهم حركة العلاقات الجماعية عند اليابانيين لا يمكن أن يفسر سر تقاعس اليابانيين عن مناقشة ومجادلة بعضهم بعضا، أو سر رفضهم الدخول في جولات سفسطائية عن مفاهيم وقضايا شائكة حول الوجود والكون والإله. ولو أن هذه الأمة آمنت بالبحث عن تلك الحقائق، أو استشعرت الخطر من عدم وجود معرفة ضرورية لما توانت عن البحث في تلك الموضوعات، بل الأجدر بالأهمية عندهم هو البقاء على الود والسلام الاجتماعي دون المخاطرة بقيمة هذه العلاقات تحت ضغط فضيلة الاستحياء والخجل. اليابان أمة مقاومة للمعارك من سطور المقدمة يتضح لنا كيف إن الأمة اليابانية جديرة بأن توصف بأنها قاومت كل أصناف المعارك، لأنها وضعت تحت محتل قوي اغتصب ذاتهم من الداخل ألا وهو الحياء والخوف من النقد أو الاستهجان من الآخرين. انه الخجل أو الخوف اللذان ينجمان عن هذا الشعور القهري الذي يحكم عقلية كل ياباني حينما يفكر في فعل شيء أوعدم فعله، ولو وضع إطارا للقيم اليابانية التي تحرك عقيدة كل ياباني نحو العمل والإنجاز لوضعت قيمة الحياء على رأس تلك القيم الجمالية والأخلاقية. ولقد كتب المفكر الكنفوشي (ساكاتاني شيروشي) مادحا السعي والتحدي كما لو وقع إعصار لسفينة في عرض البحر، ومضى كل عمله، فاستمر الراقصون في الرقص والعازفون في العزف، والأكروبات في أداء حركاتهم والمثقفون في إلقاء المحاضرات. ولو انك سألتهم عن سبب ذلك، لجاءت إجابتهم بالمثل القديم القائل بأن السبيل الحقيقي لمساعدة المرء أن يتم ما عليه من إنجاز. ولقد أشار إلى أهمية العمل حتى في أقسى الظروف، حتى وإن كانوا في جو من المرح واللهو ويستكمل حديثه قائلا: (إن أفضل سبيل لتربية أرواح الرجال تكمن في تكريس قواهم العقلية لخدمة مهاراتهم. وهذا ينطبق بدوره على أهمية التعليم، فكثير من الناس تكمن مقدرتهم على مواجهة الصعاب عندما تشحذ هممهم وتستحث شجاعتهم). لقد آمن اليابانيون بقادتهم وصدقوا أساطيرهم القديمة طمعا في النجاح والوصول إلى الغاية، فقد كان في أسطورة «الإله الحاكم» أثر بالغ في قدرة اليابانيين على التغلب على كل الصعاب التي واجهت مسيرتهم الحضارية منذ فجر التاريخ فقد أسهمت أسطورة الإمبراطور في تقديس العمل من أجل هذا الإمبراطور، وبالتالي فإن الإخلاص في العمل كان جزءا لا يتجزأ من هذه العقيدة، حتى وإن كانت هذه الأسطورة من صنع الخيال، فقد استخدمت في وقت الحرب والسلم باعتبارها إيديولوجية سياسية لتحفيز اليابانيين على العمل والتضحية في سبيل الوطن. وحينما بدأت اليابان تخطو أولى خطواتها نحو المدنية الحديثة، اهتمت في المقام الأول بتنمية هذه الروح القومية لترفع من شأن العمل والتفاني فيه، كي تحقق أهداف الدولة نحو التقدم والرفاهية. وقد كان ما تبتغيه فرفعت شعار (روح يابانية وعلوم غربية) و(دولة غنية وجيش قوي)، وأسست إلى جانب النظام الحديث فلسفة أخلاقية وإنسانية تعمق من روح الانتماء للماضي، وتربط القديم بالحديث كي تضمن المزيد من الطاقة الخلاقة الدافعة للعمل. دور المفكرين في ثقافة اليابان وقد لعب المفكرون اليابانيون دورًا كبيرًا في تأصيل الثقافة اليابانية وتطوير هياكلها المؤسسية، بحيث تبدو في شكل حديث جذاب، وطوروا لغتهم الوطنية بحيث يسهل فهمها، وترجموا الكثير من أعمالهم الأدبية إلى معظم لغات العالم. وكانت من وراء ذلك روح قومية أشعلت نار المنافسة بينها وبين الشعوب الآسيوية المجاورة لها، والتي أدت إلى قيام حروب توسعية مدمرة على مدى قرن من الزمان. وقد كانت إحدى ثمار تلك الروح تحول اليابان من دولة فقيرة الموارد تسعى إلى تقوية مواردها وتنمية مهاراتها إلى دولة عسكرية مستفزة لجيرانها، محتلة لأغلب شعوبها مما قلب موازين القوى في تلك المنطقة من العالم لتصبح اليابان إحدى القوى العظمى في منطقة جنوب شرق آسيا، ولتصنع تاريخا دمويا لم يشهد له مثيل، فقد اقترفت الكثير من المجازر في حق هذه الشعوب، وخلفت وراءها مآس لم تستطع الأيام أن تمحوها إلى وقتنا هذا. ولقد لعبت الظروف الدولية دورًا مهمًا في تحجيم قوة اليابان العسكرية، فقد انتهت تحدياتها العسكرية بالهزيمة الكبرى على يد الحلفاء، وتحولت اليابان من دولة معادية للغرب إلى إحدى حلفائها الأقوياء، ولو أن بقايا الماضي لم يمحها التاريخ فإن هناك الكثير من القيم الجديدة التي بدأت تدخل في قاموس الحياة العصرية اليابانية. فلم يكن متصورًا في ظل نظام المجتمع الياباني القائم أن ينادي أحد بأي من القيم الغربية الحديثة مثل المساواة والعدل والحرية بمعناها الغربي، التي لا يمكن أن تتواءم مع القيم اليابانية الأخلاقية ذات الجذور الإقطاعية. ولو أن أنصار المذاهب الحرة من اليابانيين الجدد قد هتفوا لتلك القيم للتخلص من كابوس النظام الإمبراطوري العقيم. وقد عبر المفكر فوكوزاوا يوكتشي عن استهجانه لمفهوم المساواة بين الرجال والنساء في مقاله «الأعداد المتساوية من الرجال والنساء» قائلا: «لا يعرف أيهما صحيح في المناقشة الحديثة للحقوق المتساوية للرجال والنساء، وهل من المفروض الدخول في هذه المناقشة للحقوق المتساوية للرجال والنساء فقط بعد الأخذ في الاعتبار طبيعة الرجال والنساء، وتكون لدينا معلومات عن ماهية هذه الحقوق!». اليابانيون في مواجهة الأفكار الليبرالية لقد حاول القليل من رجال الفكر الحديث التنبيه إلى خطر الأفكار الليبرالية على استقرار المجتمع الياباني، وإن كان ذلك من قبيل ذر الملح في العيون، فالعلم الحديث يدعو إلى احترام آدمية الإنسان، ويكرس طاقاته للعمل والنجاح. لكن أيديولوجية الدولة في ظل النظام الإمبراطوري كانت أقرب إلى النظام الشيوعي في التطبيق، فرغم اختلاف التوجيه الفكري فقد قامت فكرة الدولة على العمل بلا حدود من أجل دولة الإمبراطور، وأهملت عن عمد الجوانب الشخصية للفرد، وركزت على فلسفة الجماعة والعمل الجماعي الذي يصب في مصلحة الدولة، مما أصاب الفرد بالضمور الفكري والانقياد الأعمى لهذه التوجهات الأخلاقية التي تنادي بالوحدة الشعبوية لأجل الإمبراطور الذي هو رمز الدولة. ونتجت عن كل هذه التلاحمات الفكرية والسياسية والاجتماعية دولة قوية تحارب من أجل استقلالها ونهضتها من جانب، ومن أجل توسعها على حساب جيرانها من جانب آخر. والمثير للدهشة أن اليابانيين لم يشعروا بالخزي والهوان نتيجة هزيمتهم الحربية، فروح اليابان هي روح قتالية في المقام الأول حتى في وقت السلم. فرغم الدمار الشامل الذي لحق بها نتيجة إلقاء القنابل الذرية عليها، فإنها قامت من كبوتها عزيزة أبية رافضة الهزيمة لتثبت للغرب الشرس أنها قبلت التحدي، وأن خسارة معركة لا تعني نهاية المطاف، وأن الأيام دول، يوم لك ويوم عليك. ودارت عجلة الإنتاج لتجرى الدماء في عروقهم وتنبعث روح جديدة هي (روح اليابان) بعد الحرب. فقد استوعب اليابانيون أخطاء التاريخ، وأدركوا أن عصرا من العمل والإنجاز قد دخل وحل، وان الواجب هو العمل وليس هناك سواه من مفر. ونجحت اليابان في تحديث نظمها السياسية والاقتصادية، وإن كانت نظمها الاجتماعية قد أجبرت على مسايرة الحياة الغربية والتخلي عن قيم الحياء التي اشتهرت بها وميزتها عن الغير، وإن كانت ملامحها لم تنته بعد. وشهدت اليابان نهضة جديدة بروح يابانية ونظم غربية متطورة، وتمكنت اليابان من تقنيات الغرب الجديدة، واستعادت مكانتها باعتبارها دولة اقتصادية عظمى، استطاعت أن تغزو أسواق العالم بعبقرية لم يشهد العالم لها مثيلا. لقد انتصر العقل الياباني على التخلف والهزيمة، وتحولت اليابان إلى نمر من النمور الآسيوية القادرة على المنافسة العالمية بتمكن واقتدار، وأضحت اليابان قبلة جديدة في عالم التكنولوجيا الحساسة، ولم تعد منتجة للتكنولوجيا الرخيصة بل مصدرة لكل التقنيات الحديثة، واستفادت من تجربة اليابان الصناعية والاقتصادية الدول الآسيوية المجاورة لها، وظهرت على الجانب الآخر قوى إقليمية منافسة لليابان مثل كوريا والصين وماليزيا وإندونيسيا، وهي قوى اهتمت بتطوير نظمها الاقتصادية والسياسية وإن كان أمامها الكثير من الوقت لتلحق باليابان في مجال التكنولوجيا الحساسة. التاريخ وأسرار الشخصية اليابانية إن الحديث عن أسرار تقدم اليابان، لابد وأن يأخذنا إلى أسرار الشخصية اليابانية التي لا يمكن تجاهلها بشكل من الأشكال. فالإنسان الياباني يحترم الوقت ويقدر الجهد ويعشق العمل مهما تكبد من مشاق، ولذلك فهناك سر لا يعرفه الكثيرون، فالمجتمع الياباني مجتمع جماعي تآلفي يحب العمل والإيناس، ويبغض الوحدة والانفرادية، لذلك نشأت أخلاق تحبذ الحياة الجماعية وتنفر من الحياة الفردية التي هي عكس المجتمعات الغربية. لذا تجد كثيرا من اليابانيين يستمرون في أعمالهم لوقت متأخر من الليل ليس من أجل مقابل الساعات الإضافية، بل لأنهم يقدرون المسؤولية الجماعية، ويحترمون الوفاء بالوعد والإنجاز الذي هو إحدى شيمهم الجميلة. ومن هذا المنطلق اتخذت فلسفة العمل عند اليابانيين شكلا جماليا أخلاقيا أكثر منه شكلا تعاقديا إلزاميا. وأصبحت التربية الأخلاقية في المصانع والشركات تأخذ شكلا إلزاميا لإعداد الكوادر العاملة على أسس من التوجيه السليم والروح البناءة التي تضمن سير وسرية العمل، والحفاظ على طاقة العاملين ورفاهيتهم في آن واحد.وانطلقت المؤسسات الاقتصادية في اليابان لتؤدي دورها القيادي الإقليمي والدولي لتؤكد من جديد ريادتها في مجال الاقتصاد العالمي، وانتماءها لثقافتها القديمة التي استمدت منها روح البقاء وثورة العلم وقوة الإرادة. لقد أصبحت المؤسسات الاقتصادية اليابانية شريكا دوليا لا غنى عنه في ميادين السياسة والمال. ولا ننسى دور المرأة اليابانية في تحقيق هذه المعجزة الاقتصادية الكبرى، فهم يسمونها«وزيرة المالية» نظرا لتقشفها الزائد، وحرصها على ميزانية بيتها وتفانيها في الإخلاص لأسرتها، وعدم البذخ فيما لا ينفع. ليس هذا فحسب فكل المؤشرات تدل على دورها في إدارة منزلها إدارة علمية منضبطة. فهي تشرف على تعليم أولادها وتحفزهم على المنافسة العلمية كي يلحقوا بأعراق الجامعات، والتي منها يمكنهم الالتحاق بالوظائف المتميزة في أهم الوظائف المرموقة إن التحول في حياة الشعوب ضريبة غالية عليهم أن يتحملوها بروح عالية، ورضا تام. والشعب الياباني يتميز بقلة الشكوى وحب الصمت وكثرة العمل، وبالتالي لا يكشف عن عوراته عند احتدام المشكلات، بل على العكس أصبح من الرائع فيه حرصه على الصبر على المعاناة مما كشف عن أصالة معدنه. ويشدنا حقا نظام التربية الأسرية في اليابان، فالمتبع عند تقديم الطعام أن يجلس الجميع ويسمون قبل تناول الطعام ولا يتسابقون على الأكل، ولا تجد منهم من يشتكي من كم أو نوع الطعام لأنهم يعتبرون ذلك من سوء الأدب. وتفرض الأسرة في اليابان على الفرد آداب الطعام المتبعة، فلا سرف ولا ترف، بل أدب واحتشام. وإن كانت مظاهر الرفاهية قد اخترقت المنزل الياباني فإنها لم تصل بعد إلى ما يحدث في بلادنا من سرف وترف مبالغ فيهما. فميزانية الأسرة اليابانية في الطعام لا تصل إلى ثلث ميزانية الأسرة المصرية أو العربية العادية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على التربية الأخلاقية المتزامنة مع التربية العصرية.ويجب ألا ننسى الحديث عن الفتاة اليابانية بشكل عام. فالفتاة اليابانية تعتمد كلية على نفسها، ولا تسعى لابتزاز والديها وإجهادهم بالطلبات الكثيرة. والجميل في الأمر أن الفتاة اليابانية تعمل أثناء دراستها بالجامعة لتدبر مصاريفها الشخصية، وهي تريد بذلك الاعتماد على نفسها، وتأكيد استقلاليتها في الحياة. إن الواقع الذي فرضته ظروف الحرب في اليابان جعلت اليابانيين أكثر حرصا على العمل لتوفير مزيد من الأموال للمستقبل. ولقد أثبتت دراسات حديثة أن الشعب الياباني ؛ من أكثر الشعوب في العالم حبا للادخار وبعدا عن البذخ. وإن كانت السنوات الأخيرة شهدت تحولا في تفكير اليابانيين واتجاههم نحو السفر حول العالم نتيجة وفرة السيولة المادية، ورغبة منهم في رؤية العالم البعيد عنهم.