أحمد بن سالم الفلاحي -
تتهم النخب؛ في عموميتها؛ بأنها الأقرب إلى الانحياز إلى خيار الـ«محاصصة» في كثير من دول العالم، لأن مكتسباتها ومصالحها الخاصة؛ كما ينظر إليها؛ تتحقق أكثر فيما لو أنها طرحت الكفاءات بديلا عنها، وهذا اتهام خطير موجه للنخب في أي مجتمع.
يحتل مفهوم الـ «محاصصة» في الفكر السياسي، أهمية كبيرة، وينظر إليه بعين الرقيب والترقب، وهو مفهوم على قدر كبير من الأهمية، خاصة إذا وظف التوظيف الصحيح، بصفته عامل مهم في تعزيز التنمية الشاملة، على أن يكون التشريع هو الحاضنة الأسمى لهذه الـ «محاصصة» ولذلك تتخذه الأنظمة السياسية حديثها وقديمها محددا مهما للوصول إلى مجموعة من التوافقات السياسية في النظام، وخاصة تلك الأنظمة ذات التعددية الحزبية والطائفية، ومع أنه مسلك مهم للوصول إلى ممارسات سياسية صحيحة، وتوافقية إلى حد ما، إلا أنه- كما يبدو- في كثير من التجارب السياسية غير ناجح بصورة مطلقة، حيث لا يزال يتأرجح في نسبية غير مستقرة، ويعاني من مطبات كثيرة، وذلك عائد: إما إلى سوء فهم تطبيق آليات نظامه، أو أن المسألة خاضعة لثقافة متجذرة لا تقبل التحديث في المجتمعات التي تعاني من هذه الـ «محاصصة» ولو في ظل نظام محاصصي عادل، وهو فكر انغلاقي حتى ولو تعرض لتأثيرات العوامل الحديثة لواقع الحياة المعاصرة، ومتطلباتها الحاضرة، ومن هنا تبدو المسألة ليست ماء باردا تستسيغه الذائقة في جميع حالاته، أو نزهة ترفيهية في إحدى الحدائق العامة الجميلة، وإنما تحتاج إلى كثير من الاشتغال المؤسسي، من ناحية، وإلى شيوع حالة العدالة الاجتماعية من ناحية ثانية، وإلى حضور تشريعي لا يقبل المهادنة، وإلى النظر إلى مجموعة الظروف الفاعلة في الثقافة الشعبية الشائعة في كل بلد على حدة، وإلى العمل على التحييد التام من مختلف التجاذبات سواء من داخل البلد الواحد، أو من تلك الضاغطة بفعل المصالح المتضاربة التي تمارسها الدول ذات النفوذ، ومعنى هذا فـ«المحاصصة» تقف على «صفيح ساخن» فتجاذباتها مرتبكة إلى حد كبير، والخوف أكثر عندما يتجذر مفهوم الـ«محاصصة» ليشمل كل الأبعاد: الاجتماعية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية في النظام السياسي الواحد، حيث يتداخل بين مفاصل المجتمع ككل، ولا ينحصر تأثيره على الطبقة السياسية، فالنخب؛ وبشكل عام؛ هي من تدفع بمفاهيم الـ«محاصصة» إلى التوغل إلى القاعدة العريضة في المجتمع، حفاظا على مصالحها الخاصة.
وأي كانت الممارسات في فكر أي نظام سياسي، يستلزم الواجب الوطني أن يكون العمل نحو تحييد مشاريع الوطن الكبرى عن أي مظان من شأنها أن توقع هذه المشاريع في أي مأزق يعمل على تأرجحها، أو تململها، أو تموضعها، أو إقصائها في خاتمة النهايات، وهنا تظهر حكمة القيادة السياسية في اشتغالها اليومي، وهذا يتطلب مراجعات مستمرة لمجموعة السيناريوهات التي تعمل عليها الحكومة، وهذه الصورة العامة هي التي تذهب إلى نوع الممارسات السياسية المعقود عليها الخروج بالأوطان من مآزق التجاذبات السياسية المختلفة، ومنها تأثيرات الـ«محاصصة» في بعديها السياسي والاجتماعي على وجه الخصوص، فالنظرة العامة؛ ومن واقع الأحداث التي نعيشها إقليميا ودوليا، تذهب إلى القول: على أن المحاصصة لم تجئ لصالح أجندة الأوطان، فبقدر حالة التموضع التي تعيشها برامج التنمية بسبب الـ«محاصصة» يكون بالقدر ذاته تأخير المنجز الوطني، ويبدو- وفق هذا التقييم- أن الـ «محاصصة» تخدم أفرادا بعينهم تحت غطاء مصالح الوطن الكبرى، بينما تبقى أجندة الوطن الحقيقية غائبة عن المشهد، وهذه إشكالية موضوعية في فهم الـ«محاصصة».
من الإشكاليات المنسوبة إلى الـ«محاصصة» هو البعد الكمي، وعلى أنه عائق في عدالة التوزيع النوعي للكفاءات، حيث تذوب معايير الكفاءة والتميز، والقدرات الفردية في حاضنة الـ«محاصصة» وتسود مظاهر الصور التقليدية: الممثلة في القبيلة، والوجاهات الاجتماعية، والطائفية؛ في بعديها الديني والعرقي؛ وفي مقابل ذلك تكون خسارة الوطن كبيرة، حيث يبقى التعويل على الكم، أهم من التعويل على الكيف، وهذا ما هو مشاهد في حاضرنا اليوم في كثير من الدول، وهذه سقطة كبيرة في مستوى الوعي المنجز، الذي يفترض، أن شمولية المعارف عززته بالكثير من الممارسات، انعكاسا للمنجز المتحقق على أرض الواقع، ولذلك تبقى المحاصصة عنق الزجاجة بالنسبة للكفاءات المتحققة على الواقع، والسؤال المطروح في هذا الجانب هو: إلى أي حد يمكن أن تخدم الـ «محاصصة» الوطن في بعده التنموي على وجه الخصوص؛ إن كان لا بد من وجودها؛ وهل مناخات التنمية؛ في الأساس؛ تحتاج إلى البعد الكمي للـ«محاصصة»، أم إلى البعد النوعي، وكيف يمكن تسخير البعد النوعي في خدمة البعد الكمي؟ أسئلة تفرض نفسها عند مناقشة هذه المسألة.
ينبني فكر المحاصصة؛ على ما يبدو، على مفهوم «... بل الفتى من يقول كان أبي» وفي ذلك تجذير للبنى الاجتماعية التقليدية، والتي- يقينا- لا تصلح لكل زمان، فالأزمنة لها محصلات تحديثية لا تقبل الرجوع إلى الوراء، لأن ذلك يتنافى مع مجريات الأحداث، ووقع الحياة الديناميكي المستمر، وهذا أمر في غاية الأهمية، ثم أنه كيف يمكن النظر إلى البعد الـ «محاصصي» على أنه الأقرب الاطمئنان لمفهوم الولاء أكثر من أي بعد آخر، وخاصة في ظل دساتير، وأنظمة حديثة قائمة، وهي المعول عليها للخروج بمختلف المآزق التي تتعرض لها التنمية- على سبيل المثال- وإيجاد الحلول الجذرية لها، يضاف إلى ذلك التجارب الديمقراطية التي قطعتها الدول في رصيدها التشريعي القائم على الانتخاب الحر المباشر عبر صناديق الاقتراع؟ وفي ظل حضور هذه الصور، فهناك من يرى أن المسألة التشريعية في كثير من التجارب تعاني من تأثير الـ «محاصصة» على العملية التشريعية، وفي مرحلة الانتخابات، على وجه الخصوص، ومن هنا ينظر إلى ضآلة حصص المرأة فيها، مثال قائم، فالغالب الكمي يلعب دورا محوريا على المستحق النوعي، وهذه أكبر إشكالية في العملية التشريعية، ولا يستبعد في حالة تموضع العملية التشريعية وفق هذه الصورة أن توصف بالضعف، وأن ينظر إلى إنجازها على أنه لم يكن محققا للغايات الكبرى للوطن والمواطن على حد سواء، ولعل عزوف الفئة الواعية في المجتمع عن المشاركة في العملية التشريعية في كثير من التجارب عائد على تسيد الـ «محاصصة» في عمليات الانتخابات، وتسلط أذرعها متجاوزة بذلك القوانين والأنظمة.
تتهم النخب؛ في عموميتها؛ بأنها الأقرب إلى الانحياز إلى خيار الـ «محاصصة» في كثير من دول العالم، لأن مكتسباتها ومصالحها الخاصة؛ كما ينظر إليها؛ تتحقق أكثر فيما لو أنها طرحت الكفاءات بديلا عنها، وهذا اتهام خطير موجه للنخب في أي مجتمع، ولذلك ينظر إلى التكنوقراط على أنه الأقرب في الكفاءة خاصة في الوقت الحاضر الذي تشكل فيه التقنية العامل الرئيسي للوصول بغايات التنمية إلى مرافئها الآمنة، وقد نظر- من قبل- إلى الأنظمة السياسية التعددية على أنها الأمثل في قيادة التنمية نحو التحقق والإنجاز، ولكن سقوطها في مطب المحاصصة أوقعها في إشكاليات تضارب المصالح، وتدخل النخب، مما رفع سقف الأنظمة السياسية الشمولية، وقيمت على أنها الأنجح، والأجدر في قيادة الدول.
وعند العودة إلى تشابكات المجتمع وخصوصياته، نجد أن المحاصصة الاجتماعية، حاضرة وبقوة في كثير من الأنشطة الاجتماعية، حيث يتجلى ذلك في أنشطة كثيرة، بدءا من الأسرة، وانتهاء بالمجتمع حيث يتوزع المفهوم، ويكبر، وينتشر، ويمارس علانية وبرضا الجميع، إلى حد التفريط في بعض المعززات الاجتماعية، خاصة في المجتمعات التقليدية، التي ترى في «محور» الأسرة البقاء الأصلح للمحافظة على كينوناتها، فلا يزال الذكر- على سبيل المثال- هو المتسيد على أنشطة الأسرة، بحق وبغير حق، فقط لأنه ذكر، والحالة تتوغل في أنشطة أبناء المجتمع ككل، وفي ذات السياق ينظر إلى المحاصصة التقليدية في الثقافة على أنها السبيل للخروج من مأزق الاختلاف والتنازع، والأقرب إلى شيوع حالة الرضا والتصالح وممارسات ذلك كثيرة تفعلها المؤسسات المعنية بالثقافة، ويفعلها المثقفون أنفسهم، وتشاركهم في ذلك مؤسسات المجتمع المدني، وتدخل في ذات الإشكالية الصحف، والمجلات، ووسائل الإعلام المختلفة، عبر ممارسات مختلفة، كل في مجال اختصاصه، وهذا أمر لا يثير جدلا في حالة مهادناته المتموضعة على القيم والتقاليد- كما يروج- وليس في ذلك من ضرر ما دام الأمر عند حدوده الدنيا.