عبدالرحمن بن سعيد المسكري - إن الفرق بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب التقليديتين – بحسب عبارة زكي نجيب محمود – «هو نفسه الفرق بين الرأس والقلب، بين العقل والوجدان، بين الحياة توصف لغير صاحبها، وبين الحياة التي يحياها صاحبها؛ فبينما الشرقي يرتكز أولًا وآخر على إدراكه المباشر الحي؛ ترى الغربي لا يعنيه هذا الإدراك المباشر إلا بمقدار ما يترتب عليه من نتائج». ومن زاوية أخرى: «ثقافة الشرق هي من قبيل ما يستطيع صاحبه أن يقطع بيقينه؛ لأنه قد أحسه بقلبه، وثقافة الغرب هي من قبيل ما يطلب على صدقه البرهان؛ لأنه قائم على التفكير النظري والمنطق العقلي؛ فإن تكلم الأول جاء كلامه مرتعشا بهزة الوجدان الشاعر، وإذا تكلم الثاني جاءت عبارته باردة في رمزها؛ لأن حرارة العاطفة عندئذ تشينها وتعيبها؛ كلام الأول ناطق بما تضطرب به النفس من داخل، وكلام الثاني رامز إلى ما يُشار إليه من ظواهر الخارج». وبين هاتين الثقافتين تقع ثقافة الشرق الأوسط «العجيب»، التي يدل تاريخها «على مزج بين إيمان البصيرة ومشاهدة البصر، بين خفقة القلب وتحليل العقل، بين الدين والعلم، بين الفن والعمل...». وفي تصوري، إن الخلاصة العميقة التي يريد الكتاب الوصول إليها ليست التفرقة بين الشرق والغرب من حيث نظرتهما إلى الوجود أو طريقة تفكيرهما؛ بل هي بيان أن سبيل معرفة حقائق الحياة واكتناه أسرارها ليس في معامل العلماء ومختبراتهم وحدها، كما أنه ليس محصورا في إشراقات المتصوفة وتأملات الفنانين أيضا. فالحياة -وفقًا لهذه النظرة- كما أنها تشتمل على ما لا تنتظمه قواعد العلم وقوانينه، فهي كذلك تحتوي على ما لا تنفذ إليه بصيرة المتأملين. هما -إذن- طريقتان لإدراك حقائق الوجود، وقد ألمح إلى ذلك أستاذ الفلسفة الوضعية في غير موضع في رسالته هذه حينما قال: «إن كمال الإنسان مرهون بأن يسير الحدس مع العقل جنبًا إلى جنب، فبالعقل يفهم البيئة المادية المحيطة به فهما يعينه على العيش، وبالحدس يُدرك ما خفي عن العقل من حقائق كروح الحياة وحرية الإرادة وما إليها». وفي السياق نفسه يقول: «وقد أراد الله للإنسان أن تكون له النظرتان معًا، فبالنظرة العلمية إلى الأشياء ينتفع، وبالنظرة الفنية ينعم، إلا أن أحد النظرتين قد تغلب على زيد، على حين تغلب الأخرى على عمرو، وكذلك قد تسود إحداهما شعبا، وتسود الأخرى شعبًا آخر، أو قد تشيع إحداهما في عصر كما تشيع الأخرى في عصر آخر». وثمة مدخل آخــــــر يمكــــــــن الولــــــوج إليه لقراءة الكتاب، وهو التمـــييز بين المقولات والتقريرات التي يشتد فيها أوار الخلاف والاختلاف، فـــــإذا ثبت أن مقولات ما من قبيل «الفن»، وأن تقريرات أخرى من قبيل «العلم»؛ سهل السبيل أمام النظر فيها؛ فإذا كانت من قبيل نظر الفنان؛ فقد سقط فيها الاحتجاج من الأصل؛ لأنهـــا من قبيل النظر الذاتي الذي يكون الحـــــــدس والذوق أساسه ومعياره؛ «وإنما يكون الحجاج فيما يُقال على سند من الحواس والعقل»؛ لأنها ترجع إلى قواعد نظرية مشتركة.