د. أسامة عثمان - يتجاوز مصطلح الشِّعْرية، بحدّ ذاته، معنى الشعر، وَفْق صياغة قدامة بن جعفر بأنّه: «قولٌ موزون مقفّى، ويدلّ على معنى» إلى تقنيّات أسلوبيّة يتقاطع فيها الشعر والنثر، ومن أبرزها التخييل، حتّى عند بلاغيّين قدماء، إذ جعله حازم القرطاجنّي مُقوِّماً للصناعة الشعريّة والشعر. والقرطاجنّي، في هذا، لا يعدو ما قاله أرسطو عن العِلل المُولِّدة للشعر، في الطبع، عند الناس، وهي المحاكاة والالتذاذ بها. ثمّ يُبرز صاحبُ «منهاج البلغاء» الانفعالَ عند المتلقِّي بوصفه، مؤكِّداً لصفة الشعر في الكلام، فليست أيُّ محاكاة ترتقي إلى الشِّعرية، كما نفهم من قوله: «وكلُّ ذلك يتأكّد بما يقترن به من إغراب. فإنّ الاستغرابَ والتعجّب حركة للنفس، إذا اقترنت بحركتها الخياليّة قويَ انفعالها وتأثّرها»، إذن هي المُحاكاة المدهشة الباعثة للانفعال. تأسيساً على هذه العلامة الفارقة، وهي الانفعال، يُمكن أن تُدرَج الانزياحات الأسلوبية في «الشعرية»، وهي التي فصّل القول فيها، بلاغيّون عرب، ولعلّ أقدرهم، عبد القاهر الجرجاني، في كتابه «دلائل الإعجاز» وصولاً إلى الشكلانيِّين من أمثال رومان جاكبسون الذي رأى «أنّ المصادر الشعرية الكامِنة في البناء الصرفيّ والتركيبيّ للّغة، لم يعترف بها من قبل النقّاد إلا نادراً، وأُهملت إهمالاً يكاد يكون تامّاً من قبل اللّغويّين، وإن الكتّاب المُبدعين، على العكس، عرفوا غالباً الاستفادة بجانب عظيم منها» (جون كوين، كِتاب «النظرية الشعرية»). فاللّغة النثرية يتفاوت فيها منسوبُ الشِّعْرية، وفقاً للاقتراب، أو الابتعاد، عن اصطناع الخيال، ومُسبِّبات الدهشة والانفعال، فيُمكن أن نتصوَّر ظاهرة الأسلوب، كما يقول كوين، في شكل خطٍّ مستقيم يمثّل أقصى طرفَيه قطبَين: قطباً نثرياً، تنعدم فيه كلُّ مظاهر «المُجاوزة» (الانزياح)، وقطباً شعرياً، يتحقَّق فيه الحدُّ الأقصى منها، «وبين القطبَين توزيع الأنماط المختلفة المُستخدَمة في اللغة الشعورية، بالقرب من القطب الشعري توجد القصيدة، وبالقرب من القطب الآخر توجد اللّغة العلميّة، والمُجاوِزة في هذه اللّغة ليست منعدمة، ولكنّها تتّجه نحو الصفر». على أنّ الشعر قد يتداخل في الأجناس النثرية، بل قد ترتفع الشعريةُ فيها أحياناً إلى أزيد ممّا في بعض النصوص المصنَّفة شعراً، كما كان محمود درويش دائم القول إنّ ما في النثر من شعر، أقوى ممّا يتوافر في الشعر نفسه. ولاحظ أنّه في أيامه الأخيرة (بلغة البروفيسور إدوار سعيد في كتابه: «الأسلوب المتأخّر»)، حرص على ألّا يكتب إلّا النثر بلغةٍ شعرية سامية أعجزت المفاهيم الأجناسية. ولذلك لم يكُن مُستغرَباً أن يحمل بعضُ الروائيين لغةَ الشعر معهم إلى الرواية، كما (فوكنر) الذي بدأ حياته شاعراً، ولما تحوّل إلى النثر، بقيت- كما يقول جبرا إبراهيم جبرا- الروح الشاعرية في كلّ ما يكتب، فنثره مشحون بالصُّور الشعرية والألفاظ غير المتوقَّعة، مذكِّراً القارئ بثروة شكسبير اللّفظية. ومثله بلزاك (جبرا إبراهيم جبرا، من مقدّمة ترجمة «الصخب والعنف»). عموماً، تتّكئ الشعرية على الخيال، واللّغة المتوتّرة، والتعبيرات المُدهشة، والتعدّدية الدلالية، أو ظلال الدلالات، والإيحاءات المشحونة، ومحاولة الوصول إلى اللّاوعي بالمجاز والصورة الشعرية، أو أشكال الانزياح، هذا إذا جرّدناها من الإيقاع، ولو أنّ الإيقاع قد يظلّ قائماً، ولكن هادئاً، أو جوّانياً. والسؤال: أين تقف اللّغة في الرواية من الشعرية؟ وإلى أيِّ حدٍّ تليق بها؟ وفي أيّ لغاتها أليق؟ مع أنّ الروايةَ جنسٌ أدبيٌّ حديث، إلّا أنّنا قد نلمح في أقوال أرسطو ما يمسّها نوعاً من الإمساس، وذلك حين يتحدّث عن الشعر القصصي، «وهو الشعر الذي يتناول الماضي والتاريخ- يوضِّح أنّ القصص لا يقف عند الخاصّ، بل يمتدّ إلى العامّ، فهو لا يُعنى بهذه الحادثة، أو تلك، قدر عنايته بدلالتها البشرية، وصدق ما تحمله من معنى، وهو يصوِّر أشخاصاً، لا كوحدات بشرية، لا مثيل لها، بل كنماذج بشرية عامّة، تمثّل أنماطاً من الجنس البشري» (محمّد مندور، كتاب «في الأدب والنقد»)، هذا وهو يتناول شعراً، لكنّ البُعد القصصيّ فيه، جعله يتخفَّف من اللّغة الشعرية المتعالية إلى لغة بشرية عامّة. ويذكِّرنا هذا بالتفريق بين اللّغة الشعرية، ولغة النثر، «على أساس أنّ الأولى إلهيَّة، والثانية بشرية. فـالشعر يوازي لغة الآلهة، ويقف النثر على أرض البشر، والرواية هي النثر الذي لا يعلم عن لغة الآلهة شيئاً؛ لأنّها وُلدت من تنوّع الكلام الذي لا مراتب فيه، أي من اندثار المراتب الذي يؤوي النصَّاب والمهرِّج والغبي، ويرى في الإنسان المليء بالنواقص مبتدأ له». (فيصل درّاج، «ميخائيل باختين، الكلمة، اللّغة، الرواية»، مجلّة «الآداب الأجنبية»). وتحتفي سمة «كسر اليقين» التي تضطّلع به الكلمةُ الروائية- كما يرى باختين- بنسبيّة المعرفة، وتنسجم مع السمة الإنسانية في الشخصية الروائية، كما نفهم من كلام فيصل درّاج، مُعلّقاً على رأي باختين الآنف الذكر. ولا يخفى أنّ هذه القضية تخضع للمنطلقات الأساسية حول دَور الأدب بعامّة، والرواية بخاصّة، جنوحاً نحو الواقعية الاجتماعية، أو نزوعاً نحو المنبع الأدبيّ الفنّي الجمالي. يذهب عبد الملك مرتاض في كتابه «في نظريّة الرواية» إلى أنّ لغة الرواية، «إذا لم تكُن شعريّة،...لا يُمكن إلّا أن تكون لغة شاحبة». وفي مقابل هذا الرأي هناك الرأي الذاهب باللّغة الروائية بعيداً عن لغة الشعر إلى الوظيفة التوصيلية؛ فالناقد (جيرموفسكي) ذهب في معرض مقارنته، في العشرينيّات، بين لغة الشعر والرواية إلى أنّ لغة الرواية حرَّة في تأليفها الكَلِمي، لا تستخدم الكلمة بوصفها عنصر تأثير، كما القصيدة الفنّية، بل بوصفها وسطاً محايداً، أو نظام علامات يخضع كما في الكلام العادي لمهمّة توصيلية (ميخائيل باختين، الكلمة في الرواية). وفي كتابه المذكور، يستند مرتاض في كلامه على أنّ اللغة هي أساس الجمال في العمل الإبداعي، إلى أنّ تشكيل الرواية أصبح ينهض على اللّغة، وإلى أنّ الرواية غدت عالَماً من ورق، ولم تعُد مُلزَمة بواقعية الأدب، ولاسيّما بعد أن فقدت الشخصيّة (Personnage) كثيراً من الامتيازات الفنّية التي كانت تتمتّع بها طوال القرن التاسع عشر، وطوال النصف الأوّل من القرن العشرين أيضاً. فلذلك طالَبَ بتبنِّي لغة شعريّة في الرواية، ولكن ليست كالشعر؛ ولغة عالية المستوى، ولكن ليست بالمقدار الذي تصبح فيه تقعّراً وتفقّهاً...غير أنّ عدم علوّها لا يعني إسفافها وهزالها. ويرفض مرتاض جعْل لغة الرواية بين فصيحة للسرد وعامّية للحوار: سرد ولغته الفصحى، وحوار ولغته العامّية، ولكنّه يقبل بتدرُّج المستويات، أو تفاوتها تفاوتاً غير ملحوظ على نحوٍ كبير، فيما يطلق عليه تولّج المستويات، وذلك من دون أن يحسّ المتلقّي بذلك الانفصال. ومصطلح التوالج هذا يذكِّرنا بما قاله باختين عند تعرُّضه لـ «الرواية المونولوجيّة» حين بقي- كما يبيّن- درّاج- متشبّثاً بمبدأ ينكر الأُحادية والتجانس، «فلا وجود لمونولوجيٍّ خالص، ولا وجود لحواريٍّ خالص، فإلى الأوّل تتسلَّل عناصر لم يشأها، وفي الثاني ترقد عناصر لم يرها. وبسبب ذلك يظلّ «الآخر» مُلازِماً للرواية الأحادية الصوت، فهي تُنشئ أسلوبها المكتفي بنفسه، على مقربة من تعدّدٍ كلاميّ اجتماعيّ مجاور، وتنسج «كلمة سامية»، لتردّ على «كلمة وضيعة» وتقدِّم لغةً صقيلة و«نبيلة» لتنكر لغةً «مبتذَلة»، ولذلك لن يكون الخطّ الثاني في الرواية، أي الخطّ الحواري، على قطعية كاملة مع الخطّ الأوّل، وإن كان للحوار والتنوّع والتعدّد مكانٌ أكثر رحابة واتّساعاً». ولعلّ هاجس مرتاض الأكبر ألّا تغيب الأدبية عن لغة الرواية، وهو محقٌّ في ذلك، بما أنّ الرواية هي جنس أدبيّ أوّلاً وأخيراً.. فالمعيار الذي ينبغي أن يخضع له التفاوت في لغة الرواية هو الحفاظ على الأدبيّة، وذلك بتشكيل لغة متّسقة بين مستوياتها غير مرقّعة، ولا مُتنافرة. وربّما يكتسب هذا الاتّجاه نحو الحفاظ على اللّغة الشعرية، أو على قدر منها، أرجحيَّة، وذلك قد يرتدّ على الأقلّ إلى سببَين، أوَّلُهما: انفتاح الرواية على الأجناس الأخرى، ومنها الشعر. فالرواية بوصفها جنساً أدبيّاً غير منتهٍ يظلّ مفتوحاً على بقيّة الأجناس الأدبيّة الأخرى، ومُستمِداً بعض عناصرها، ممّا جعل خطاب الرواية خطاباً «خليطاً» متّصلاً بسيرورات تعدّد اللّغات والأصوات، وتفاعل الكلام والخطابات والنصوص، من ضمن سياق المجتمعات الحديثة القائمة على أنقاض قطائع اجتماعية وإبستمولوجية مع مجتمعات القرون الوسطى، وهو الرأي الذي وافق فيه باختين الناقد شليجل من كون الرواية خليطاً من كلّ الأجناس الأدبية التي سبقتها، أو خليطاً من كلّ الأجناس الشعرية. والثاني أنّ ثمّة مواضع في الرواية تتطلَّب لغةً شعرية بطبيعتها، كما في المواضع الأكثر حميمية، لدى بعض التجلّيات الروحية للشخصيات، أو بعض التأمّلات أو التأزُّمات النفسية، مزيداً من الوجاهة، بعد أن حازت الرواية هذه المكانة القرائية المتفوّقة، بين الأجناس الأدبية، في عصرنا هذا. لكنّ الرواية لا تستطيع، ولا يليق بدَورها، أن تُغادر لغة الحياة، بالمفردة الحيَّة، وتعدُّد الأصوات، والحوار المشحون، وكلّ ما لفت إليه باختين من أبعادٍ اجتماعية في لغة الرواية، ومن تداخل الخطابات الذي يكشف عالَماً أكثر اتّساعاً وتعقيداً، ليس بإمكان لغة وحيدة أن تعكسه، مُتجاوزاً الشكلانية بمطالبته بأن تكون (الأسلوبية)، في مجال تحليل القول الروائي بالذات، أسلوبية سوسيولوجية. أي تجاوز اللغوية القديمة إلى (فنّية ما وراء الألسنية)، أو عبر ألسنية- كما فضَّلت جوليا كرستيفا- تسمح بدراسة امتدادات القول الاجتماعية. فالرواية لم تعُد انعكاساً لإيديولوجية وعي المؤلّف؛ وإنّما أصبح الحال «تصادماً» لإيديولوجيات متنوّعة...‏ بتباينات تتبّعها في الخطاب اللّغوي. وتاريخياً، كان للرواية اتّصال بالشعر، يقول إدوارد بلشن: «إنّ الروايات التي كُتبَت في القرن السادس عشر كانت تقع في نوعَين مختلفَين جدّاً، إذ كانت روايات أقرب إلى الشعر منها إلى النثر» (إدوارد بلشن، كِتاب «الرواية وصنعة كتابة الرواية»). ولكنّنا نجد ميجيل دي ثربانتس يُهاجِم كُتب الفروسية، والسبب أنّ أسلوبها -في رأيه- مُفتعَل، كلُّه صناعة وتعقيد، وهو يرى أن يكون الأسلوب بسيطاً، وخالياً من الصنعة، وهو يميل إلى لغة تجمع بين ألفاظ بسيطة وصافية وحسنة السَّبْك، وفواصل رنّانة الإيقاع، وبين أن تفيد اللّغة الروائية من المحاكاة والدهشة وقدرتها على إعجاب الحاذقين (عبد الرحمن بدوي، مقدّمة «دون كيخوته»)، فهي، إذن، لغة فيها من النثرية والواقعية، وفيها من الشعرية، كذلك، لكن من دون تعقيد، أو غموض، أو تكلُّف ظاهر. *باحث وكاتب من فلسطين- رام الله بالتعاون مع مؤسّسة الفكر العربي