يوم حزين في فلسطين، وما أكثر أيام فلسطين الحزينة، فقد مات الفنان الفلسطيني المسرحي والسينمائي الشهير محمد بكري، 27-11-1953 - 24-11-2025 ،موت البكري كان متوقعا، كان مدخنا شرها ومريض قلب، والأهم من ذلك كان فلسطينيا عنيدا حساسا معذبا بحلم حرية بلاده، لكن الموت حين يذهب بعزيز وغالي على شعبه مثل محمد يشعرنا بالصدمة، نقف كالتماثيل، الهي كيف تسير الحياة الفلسطينية دون فيلم لمحمد أو مسرحية؟ كيف تمضي الثقافة في فلسطين بطريقها دون صوت محمد العنيد وهو يقول ببطء بطل: أنا أقوى من إسرائيل.؟
صدمة رحيل البكري تشبه صدمة رحيل محمود درويش، في الرحيلين ثمة قهو وموت وفن وخلود وصمود ويأس. رحيلهما لا يشبه أي رحيل، فهما ذائبان في جوهر وجع فلسطين حد عدم القدرة على الفصل بينهم.
من الصعب اختصار محمد بكري في خانة مخرج أو ممثل، هو مثقف كبير ومناضل عنيد لم ينم أعداؤنا وهم يفكرون كيف نوقف هذا الفيضان الفلسطيني المقاوم عبر الفن والمسرح والسينما،؟. عروضه لمسرحية المتشائل المأخوذة عن رواية العظيم الراحل الفلسطيني ايميل حبيبي استنفرت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ومن خلال هذا الاستنفار تم التأكد من خوف الطغاة من الأغاني والمسرحيات، أكثر من مئة عرض للمسرحية وفي كل مكان في فلسطين، في القرى والمخيمات والمدن الفلسطينية والعربية، وأحيانا كان البكري يعرض (المتشائل) في بيوت ومؤسسات، لا يحتاج إلا الى مكنسة وطاولة، وصوته البهي وهو يرسم ملامح تعقيدات الحياة وتناقضاتها في فلسطين أول النكبة، كان الفنان يحول المأساة الى فكاهة تضحك الجمهور، ذلك الضحك الفلسطيني الخاص بالفلسطينيين وحدهم الذي لا يتحرك، الا وسط بحيرة من الدموع.
صنع البكري معجزة نضالية حادة وطويلة، سببت صداعا عميقا للاحتلال ،في فيلمه الذي عصف بإسرائيل وأربك جنودها،( جنين جنين، وهو فيلم سينمائي وثائقي درامي يروي حكايات اجتياح مخيم جنين عام 2003 من أفواه الناس الذين شاهدوا كل شيء، وفقدوا أحباءهم، ويفضح جرائم الجنود ومجازرهم، ُعرض الفيلم في العالم كله، مثيرا زوبعة سياسية تجاه الاحتلال، ولم يسكت المحتلون، فقد رفعوا دعوات في المحاكم الإسرائيلية لوقف الفيلم وللحصول على تعويضات مالية، المحاكم استمرت سنوات، انتهت للأسف بانتصار للجنود الغزاة، واضطر الفنان لتعويض الجنود ماليا.
لكن الفيلم ربح تضامن العالم وانتصرت فلسطين بوضوح حقها، وجمال كفاحها الذي لا يتعب. وتم توثيق بطولة فلسطينية لن تنساها الأجيال، وهذا إنجاز كبير.
لم ييأس محمد، لم يتراجع، واصل إنتاج الأفلام، والمسرحيات وإخراجها : كان آخر فيلمين هو( ما تبقى منك) من إخراج الفلسطينية شرين دعيبس، و فيلم (فلسطين عام 36،) من إخراج الفلسطينية ماري جاسر يصور الفيلم، حقبة مفصلية في حياة النضال الفلسطيني، وهي ثورة الل 36 الشهيرة التي خاضها الفلسطينيون، عبر إضراب شهير استمر ستة أشهر، وتخلله معارك وشهداء. وقد رشّحت وزارة الثقافة الفلسطينية هذا الفيلم، لجائزة مهرجان الاوسكار.
محمد البكري في سطور
محمد بكري ممثل ومخرج فلسطيني، وُلد عام 1953 في قرية البعنة في منطقة الجليل، ونشأ في أسرة فلسطينية مهتمة بالثقافة والتعليم. درس التمثيل في جامعة تل أبيب، وبدأ مسيرته الفنية في السبعينيات، حيث سرعان ما لفت الانتباه بموهبته وقدرته على أداء أدوار مركّبة إنسانيًا وسياسيًا. يُعدّ من أبرز الوجوه الفلسطينية في السينما العربية والعالمية، وشارك في أفلام شكّلت محطات مهمة في تاريخ السينما الفلسطينية، من بينها عرس الجليل (1987) لميشيل خليفي، المتبقّي (1995) ويد إلهية (2002) والزمن الباقي (2009) لإيليا سليمان، الجنة الآن (2005) وعمر (2013) لهاني أبو أسعد، وواجب (2017) لآن ماري جاسر، إضافة إلى مشاركته في أفلام عالمية وإسرائيلية ناقدة للواقع السياسي.
في المسرح، قدّم محمد بكري أعمالًا مؤثرة ذات بعد ثقافي ونقدي، ويُعد عرضه الفردي لمسرحية المتشائل المقتبسة عن رواية إميل حبيبي من أشهر أعماله وأكثرها استمرارًا وتأثيرًا، كما شارك في مسرحيات مثل كفر قاسم والمحققون، وقدّم أدوارًا كلاسيكية مثل الملك لير، إلى جانب أعمال شعرية ومسرحية عن شخصيات تراثية مثل أبو الطيب المتنبي. عُرفت أعماله المسرحية بالجمع بين الأداء التمثيلي والسرد السياسي واللغوي..