لا يختلف هذا اليوم الذي تنطوي في نهايته سنة 2025 عن اليوم الذي بدأت فيه. البشر هم البشر، والأحداث متوالية يعقب بعضها بعضا في نسق تراكمي. ما يختلف -إن كان ثمة اختلاف- هو مقدار ما اكتشفنا فيها عن أنفسنا وعن العالم من حولنا.. ما يختلف هو الوعي؛ الوعي بالذات وبصيرورة الحياة. ولذلك لا ينتظر أحد أن يكون هذا اليوم صاخبا بالضجيج؛ لأن أحداث العالم لا بد أن تتوقف قبل نهاية ساعاته؛ ليبدأ كل شيء من جديد غدا. الذي سيحدث -إن كنا جادين- هو أننا سنستطيع سماع صدى لما حدث إنْ جلسنا جلسة صفاء مع أنفسنا. سنجد أن العناوين تلاحقنا، وكذلك الصور التي لا تغادر ذاكرتنا.. ستبقى بعض الضحكات العابرة التي سمعناها في مقهى ذات صباح وفرح، أو مكالمة قصيرة تعيد بعض الطمأنينة، ووقت ضاع بين شاشة وأخرى حتى صرنا نحتاج إلى دليل كي نتذكر كيف كنّا نرى العالم قبل هذا السيل الجارف.
تكاثرت المآسي في هذه السنة من يومها الأول إلى هذه الساعات، وأصبح وقعها أكثر قسوة على البشر وكأنها تتعلم من نفسها. حروب، وإبادة، ونزوح، وجوع، ومدن تُستنزف وأخرى تمحى من الوجود، وبشر يغادرون هذه الحياة على عجل، بأثر أو بغير أثر. رأينا في هذه السنة كيف تتراجع الحساسية الإنسانية حين يطول المشهد، وكيف يتشكل نوع جديد من القسوة، هي قسوة الاعتياد. تتكرر الفاجعة فيصبح السؤال: «ما الجديد»؟ بدلا من: «كيف يحدث هذا»؟
رغم ذلك لم تكن السنة حزنا خالصا، وربما هذا ما يجعلها سنة حقيقية؛ فالأفراد فيها ليسوا سواء، وكذلك الدول. هناك من فرح، وهناك من تقدم. هناك من جهل قراءة نفسه، وهناك من قرأها بوعي كبير. لكن هذه «البهجات» التي تقاوم الاعتياد لا تغيّر خرائط السياسة، لكنها تغيّر خرائط الروح على أقل تقدير. وهي أحد أشكال المقاومة الهادئة التي تؤكد رغم كل شيء أن الحياة لا تُسلم مفاتيحها بسهولة للخراب والضياع.
ربما كان الدرس الأشد إلحاحا هذا العام هو أن الأزمات الكبرى لا تُهزم فقط بالسياسة، ولا تُدار بالاقتصاد. تُهزم بالوعي، وبالقدرة على تمييز الحق من الضجيج، والعدالة من الانتقام. والوعي هنا مهارة يومية تعيننا على آلية استهلاك الأخبار القادمة من كل مكان عبر الفضاء المعلوماتي، وكيف نتحدث عن المختلف، وكيف نُصغي لمن لا صوت له.
ما الذي يمكن أن نقوله ونحن نعبر من عام إلى عام؟ ربما لا نحتاج جملة كبيرة. نحتاج وعدا صغيرا وقابلا للتنفيذ: أن نبقى بشرا رغم كل ما يدعونا إلى السطحية، أن نعيد الاعتبار لفكرة الرحمة بوصفها قوة عامة وليس عاطفة خاصة، أن نُحسن الظن بالقدرة على الإصلاح دون أن نغلق أعيننا عن حجم الانكسار، أن نحمي الفرح من الابتذال، وأن نحمي الحزن من الاستغلال.
لن نبدأ في السنة الجديدة من «الصفر»؛ فنحن نحمل معنا ما عشنا، لكن يمكن أن نرتب فيها أولوياتنا، أن نبتعد عن الضجيج ولا نصنعه من حولنا، أن نمنح الوقت لأنفسنا ولأسئلتنا المؤجلة، أن نسعى جاهدين إلى أن نكون نحن، وأن نستشعر المسؤولية في كل ما نعمل؛ ما نعمل لأنفسنا ولأسرتنا ولوطننا، أن نكون أكثر صدقا وعدلا وإيمانا بأوطاننا ووحدتها وبهويتنا، وبأن بناء الجسور بيننا وبين الآخر وبيننا وبين ما نريد ما زال ممكنا وإن بدت الضفاف بعيدة جدا.
بهذا المعنى نحن نودع نسخة منا حاولنا أن نفهم حدودها وماهيتها، ونستقبل نسخة نأمل أن تكون أكثر صلابة وأقل انفعالا، وأكثر إنصافا.