الجمعة الماضية، أعلنت إسرائيل بشكل مفاجئ اعترافها بـجمهورية «أرض الصومال» دولة مستقلة ذات سيادة، لتكون أول دولة في العالم تعترف بهذا الكيان الانفصالي الذي فشل على مدى ربع قرن تقريبا من الحصول على أي اعتراف دولي به.
بهذا الاعتراف الدولي الأول القادم من تل أبيب لم تعد قضية انفصال إقليم أرض الصومال شأنا صوماليا داخليا أو شأنا ثنائيا بين طرفين، لأن هذا الاعتراف الصهيوني وما قد يتلوه من اعترافات شبيهة ومشبوهة من دول أخرى يتجاوز أثره وقيمته الفعلية المحدودة في ظل الرفض الدولي الواسع له، ليكون سابقة ونموذجا قابلا للتكرار في مناطق ودول أخرى تشهد صراعات وحروبا أهلية وحركات انفصالية وتتشابك فيها المصالح الإقليمية والدولية.
ولهذا جاء الرفض العربي والدولي للخطوة الصهيونية واسعا، إذ أدانتها دول ومنظمات أممية عديدة واعتبرتها تمس بوحدة الصومال وتهدد أمن واستقرار القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
ما يعنيني في مثل هذه الأزمات، كباحث في الإعلام، هو حرب السرديات التي اندلعت فور إعلان الاعتراف الإسرائيلي بالدولة الانفصالية.
بدأت هذه الحرب بالبيانات المتبادلة بين الكيانين، ثم انتقلت إلى المنصات الإعلامية والخرائط واللغة. يكفي أن يذكر الصهاينة كلمة «اعتراف» حتى يتحول الحديث عن كيان انفصالي إلى الحديث عن صراع مشروع بين طرفين متكافئين على الشرعية، ثم يتحول سريعا إلى حرب إعلامية يختلط فيها القانوني بالسياسي، والواقعي بالمفترض، والموثق بالمتداول.
موقفي من الاعتراف الصهيوني بكيان غير شرعي ولد من رحم حرب أهلية طاحنة، أنه اعتراف مرفوض جملة وتفصيلا، لأنه يتعارض مع أبسط قواعد احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها، ويمس الأمن القومي العربي، ويتناقض مع ما يحتاجه القرن الإفريقي والبحر الأحمر من سلام واستقرار ومسارات تنموية حقيقية، وليس فتح جبهات جديدة للصراع حوله.
هذا الرفض ينسجم تماما مع موقف سلطنة عمان والموقف العربي والإسلامي المعلن رسميا. فقد نشرت وزارة الخارجية العمانية بيانا أكدت فيه أن «سلطنة عمان تتابع باهتمام التطورات ذات الصلة بوحدة وسلامة أراضي جمهورية الصومال الفيدرالية الشقيقة، وتؤكد دعمها لسيادة الصومال ووحدة أراضيه، مع أهمية احترام مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وعدم اتخاذ أي إجراءات أحادية قد تمس وحدة الدول أو سيادتها المعترف بها دوليا».
ويتسق هذا الموقف مع موقف إحدى وعشرين دولة عربية وإسلامية، من بينها سلطنة عمان، أعلنت السبت الماضي رفضها القاطع لإعلان إسرائيل الاعتراف بما يسمى «أرض الصومال».
وأدان مجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الدائمين، الأحد الماضي، الاعتراف الإسرائيلي غير القانوني، واعتبره «جزءا من محاولات زعزعة الأمن والسلم الدوليين، واعتداء على الأمن القومي العربي، يستوجب اتخاذ إجراءات قانونية واقتصادية وسياسية ودبلوماسية لمواجهته، والتصدي لأي إجراءات تترتب عليه».
وإذا أضفنا الرفض الدولي إلى الرفضين العربي والإسلامي، يمكن القول إن أزمة «أرض الصومال» لا تمثل أزمة عابرة، وإن الاعتراف الإسرائيلي باستقلالها وسيادتها يقوض عددا من الأسس والقواعد المستقرة في العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن المرجح أن تترتب على هذا الاعتراف آثار سلبية تطال دولا عدة حول العالم، خاصة تلك التي تشهد صراعات جهوية وحركات انفصالية، أو تقع في مناطق حساسة تشرف على طرق الملاحة العالمية، وتخضع لضغوط إقليمية ودولية مكثفة، كما هو الحال في الصومال.
اللافت في الأزمة الصومالية أن ساحة الصراع بين الحكومة الشرعية والكيان الانفصالي لم تجر أساسا في قاعات المنظمات الدولية، بل في المنصات الإعلامية. أول فصول الحرب الإعلامية، كان عنوانه «حرب المفاهيم والمصطلحات»، حيث دارت المعركة حول تعريف الأشياء قبل الخوض في مناقشتها أو تفكيكها. فعندما يستخدم مصطلح «دولة» في الخطاب الإعلامي، تتداعى إلى ذهن المتلقي معاني الاستقلال والسيادة والاعتراف والعضوية في المنظمات الإقليمية والدولية، بينما يؤدي توصيف أحد أقاليم الدولة بأنه «إقليم انفصالي» إلى توليد دلالات أخرى تتصل بالتقسيم وفقدان الشرعية.
بهذه الطريقة تتحول المفردة الأولى التي تسبق الاسم إلى محور صراع إعلامي، وغالبا ما يتشكل الموقف السياسي لدى الجمهور انطلاقا من هذه المفردة وحدها.
وتأتي بعد ذلك الخرائط لتؤدي وظيفة تتجاوز في تأثيرها اللغة ذاتها؛ فخريطة واحدة تلون فيها المنطقة بلون مختلف عن لون الدولة قادرة على إنتاج إدراك زائف للواقع، وإن ظل الواقع القانوني على حاله. كما أن صورة تظهر علما يرفع في مناسبة رسمية قد تُغني بعض المتلقين عن قراءة الخبر كاملا.
وبهذا المعنى، تتحول الوسائط الإعلامية البصرية إلى جزء من عملية «التعبئة»، إذ تقدم الكيان الانفصالي بوصفه حقيقة قائمة على الأرض، لا باعتباره موضعا للنزاع.
ومن هنا تتأكد الحاجة إلى أن تتعامل الصحافة الجادة مع الصور والخرائط بوصفها محتوى سياسيا، وليست مجرد عناصر للزينة والإبراز.
وتتعمق الحرب الإعلامية عندما تنتشر روايات مضللة تزعم أن دولا عربية ستعترف قريبا بالكيان الانفصالي، أو تتحدث عن «اعترافات دولية متتابعة قادمة»، وهي روايات تفتقر إلى أي سند رسمي منشور.
وفي مثل هذه الأزمات، لا يكمن الخطر في التضليل المقصود وحده، بل في إعادة النشر الواسعة التي تجعل الشائعة كأنها حقيقة، وهو ما يفرض ضرورة التمييز بين البيان الرسمي، وبين ما يتداوله المستخدمون على شبكات التواصل الاجتماعي.
لقد قدمت إسرائيل الاعتراف بما يسمى «أرض الصومال» ضمن سردية ترتبط بالانفتاح والتعاون المشترك، وباعتباره امتدادا لاتفاقات «إبراهام»، وهو إطار يضع هذه الخطوة في سياق ما يروج له بوصفه «إعادة تشكيل للمنطقة» عبر مسارات سياسية بديلة، تستبدل فيها القوى التقليدية بقوى جديدة من خارج الإقليم.
في تقديري أن المشهد في الصومال يبدو أكثر تعقيدا مما قد يعتقد البعض. فالقرن الإفريقي والبحر الأحمر يشكلان جزءا من الأمن العربي المباشر، وهو ما يجعل أي محاولة، سواء كانت إسرائيلية أو إثيوبية أو عبر وسيط خارجي، لإعادة رسم خرائط السيادة في هذه المنطقة تمثل رسالة ضغط وإرباك للمصالح العربية، وتطورا خطيرا يمس مصالح الدول العربية المطلة على البحر الأحمر، ويفتح المجال أمام تساؤلات مشروعة تتعلق بأمن وسلامة الممرات البحرية، وحسابات القوة والنفوذ في الإقليم.
ومن هذا المنطلق، يكتسب الموقف العماني والعربي والإسلامي قيمة خاصة، لأنه يؤكد قاعدة عامة مفادها عدم شرعية أي خطوة تفتح باب التفكك والتشرذم في منطقة تعاني أصلا من هشاشة سياسية واقتصادية وأمنية. ويرسخ رفض أي محاولة لصناعة دولة بقرار أحادي يلتف على المواقف الدولية والإقليمية المستقرة.
في حرب السرديات، تبرز في هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ العرب، أهمية إعادة النظر في طريقة إدارة خطابنا الإعلامي.
المطلوب من إعلامنا أن يشرح للرأي العام قضية الصومال، وطبيعة الكيان الانفصالي بلغة واضحة وبسيطة، وأن يبين دلالات الاعتراف الإسرائيلي بهذا الكيان، وأسباب الرفض العربي له، وصلته المباشرة بأمن البحر الأحمر، وما قد يترتب على تحول هذا النموذج إلى سابقة مقبولة في المنطقة.
الاعتراف الإسرائيلي بما يسمى «جمهورية أرض الصومال» لا يجب التعامل معه بوصفه خبرا عابرا، لأنه حدث يصنع سابقة خطيرة ويطلق حربا إعلامية تنطلق من المفاهيم والمصطلحات، قبل أن تصل إلى الوقائع. فمِن ثَم، الرد على هذا الاعتراف ينبغي أن يظل واضحا ومبدئيا، يقوم على رفضه، وتقديم كل الدعم الممكن للحفاظ على وحدة الصومال وسيادته، والتمسك بالموقف العماني والعربي الذي يرى في هذه الخطوة تهديدا للاستقرار الإقليمي ومخالفة صريحة لقواعد القانون الدولي.