«استيقظنا فجرًا على صوت انهيار منزل عائلة بدران»، يقول يوسف أبو خالد، جار المنزل المُسن في منطقة بئر النعجة، شمال قطاع غزة، وهو يستعيد تلك اللحظات التي بدت أطول من العمر نفسه. كان الليل مثقلًا بالرعد والرياح العاصفة، والأمطار في غزة بدت كفيضانات لا تعرف الشفقة. يصف الرجل المشهد بارتجافٍ لا تخطئه الأذن، وكأن الأرض نفسها قررت أن تتخلى عن ساكنيها في ساعة الفجر الأولى.


في الحيّ ذاته، لم يكن الخوف حكرًا على عائلة واحدة. «نشعر بالخوف لأننا مثلهم نسكن في دارٍ آيل للسقوط»، يضيف أبو خالد، مُشيرًا لـ«عُمان» إلى بيوت الجيران التي أنهكها القصف القديم والإهمال القسري. يقول إن الخطر المرتبط بتهالك البنية التحتية صار أكبر من خطر الاحتلال، «وهو أصلًا بفعل الاحتلال المجرم الذي دمر مساكننا»، فيما يظل الخطر معلقًا فوق الرؤوس مع كل هبة ريح وكل دفقة مطر.


أما الخيام، فيؤكد الرجل المسن أنها لم تكن ملاذًا. «الخيم أيضًا لن تسترنا في ظل هذا المطر الشديد»، يقول، قبل أن يروي كيف لجأ بعض الجيران إلى الجامع القريب، لكنه امتلأ عن آخره بالناس. في منزله غرفة خرسانية واحدة، لكنها تشققت وتتساقط منها الأحجار وتُسرب المياه بفعل الأمطار والرياح والقصف القديم، حتى باتت الغرفة نفسها سؤالًا معلّقًا عن الأمان.


يتوقف أبو خالد قليلًا، ثم يطلق نداءً مُلحًا: «نناشد بإدخال الكرفانات؛ نعيل أطفالًا». يصف مشهد الأطفال في الحي وقد غمرتهم المياه، وكيف نُقلوا إلى المسجد ملفوفين ببطاطين، يكحّون ويسعلون بشدة، وعلى وجوههم المرض والخوف والهلع. «جيراننا ماتوا، ونحن قد نموت مثلهم. لا أحد يبحث عنّا، وهذه ليست حياة»، يقولها بنبرة تجمع بين العجز والغضب.


سباق مع الزمن
لم يكن انهيار منزل عائلة بدران حادثًا معزولًا. فقد انهارت 17 بناية سكنية جراء العواصف والمنخفضات الجوية، ما أسفر عن استشهاد 15 مواطنًا، بينهم 6 في منزل عائلة بدران وحده، إضافة إلى استشهاد 4 أطفال نتيجة البرد القارس. أرقام ثقيلة تختصر كلفة الطقس حين يلتقي مع حصار طويل وبنية تحتية متهالكة، لتتحول السماء إلى شاهد قاسٍ على هشاشة المأوى.


في ساعات الفجر، كان أحمد النجار، عامل الدفاع المدني، ضمن الطواقم التي هرعت إلى بئر النعجة. «انهار منزل على رؤوس ساكنيه»، يقول بصوتٍ يختلط فيه الإرهاق بالمرارة، «وهو منزل يعود لعائلة بدران، وتم انتشال ستة شهداء من تحت الأنقاض». كلمات قليلة تختصر سباقًا مع الزمن، حيث تتقدم الأيادي قبل الآلات.


يضيف النجار لـ«عُمان» أن الطواقم تعمل بإمكانات بسيطة جدًا ومعدات بدائية، بالشراكة مع بلدية بيت لاهيا. «نواجه وضعًا صعبًا جدًا وكارثيًا»، يكررها ليؤكد أن ما جرى ليس الأول ولن يكون الأخير. فمنذ بدء دخول المنخفض الجوي إلى قطاع غزة، سُجل انهيار أكثر من عشرة منازل، ولا تزال حياة آلاف المواطنين في خطر داهم.


بين نداء وآخر، يعود النجار إلى نقطة البداية: «الشتاء هنا امتحان مضاعف». فالمطر لا يختبر فقط قدرة الطواقم على الوصول، بل يختبر قدرة الناس على الاحتمال، وقدرة البيوت المتعبة على الصمود ساعة إضافية.


بيت بلا سقف
في منزل آيل للسقوط، تحكي أم محمد المحتسب تفاصيل الحياة تحت المطر. «البيت مدمر، والشتاء صعب، ونعيش ستة أشخاص في هذا المنزل لأنه ليس هناك مكان آخر نذهب إليه»، تقول لـ«عُمان» وهي تشير إلى سقف واحد وجدران تتداعى. بعد عودتهم من النزوح، لم يجدوا سوى هذا الهيكل الذي يسرب مياه الأمطار وتتساقط بعض أحجاره من حين إلى آخر.


تستعيد أم محمد ليلة الأمس، وتصفها بأنها «سيئة جدًا». لم تنم العائلة دقيقة واحدة، إذ كانت المياه تنزل من كل شق، ومعها قطع من الأحجار. «السقف يتشقق ويبدو أنه سيسقط للتو»، تقول، مؤكدة أنهم بلا بديل، «ولو لجأنا إلى خيمة أيضًا سنغرق في المياه».
في صوتها، تتجاور الشكوى مع القبول القسري. فهي تعلم أن البيت ليس آمنًا، لكنها مضطرة للبقاء. «ليس لنا مكان آخر»، تكررها وكأنها تُقفل باب الخيارات، في مشهد يعكس كيف يفرض الطقس قراراته حين تُغلق الأبواب أمام البشر.


نداء الإعمار
ومنذ وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر 2025، لم تظهر أي جهود لإعادة الإعمار في غزة، حيث يعرقل الاحتلال دخول مواد البناء أو حتى البيوت المتنقلة، مكتفيًا بدخول شحيح للمساعدات الغذائية، التي لا تكفي احتياجات السكان، تاركًا أكثر من مليوني مواطن في القطاع بلا مأوى حقيقي يقيهم أفاعيل الشتاء.


تُعرّف نفسها باسم سمر أبو عابد، مواطنة فلسطينية في الثلاثينيات، وتختصر حالها بجملة قاسية: «وضعنا صعب في فصل الشتاء». تقول لـ«عُمان» إن البيت بلا حوائط تقريبًا، «كل البيت مفرغ»، ومع ذلك تعيش فيه مع أطفالها وزوجها، وهم يعلمون أنه قد يسقط في أي لحظة. «ليس هناك أي مقومات للحياة، لكن لا مكان نقعد فيه إلا هذا المكان».


توجّه سمر نداءً إنسانيًا مباشرًا: «أطالب أي أحد عنده ذرة إنسانية أن ينظر إلى وضعنا». تطالب بإعمار سريع لغزة، وبنظرة رحمة للنساء والأطفال الذين حُرموا من الدراسة والتعليم وأبسط مقومات الحياة. كلماتها لا تبحث عن بلاغة، بل عن سقف يحمي.
تختم حديثها بمطالب واضحة: إعادة إعمار، عودة الأطفال إلى مدارسهم، واستعادة المنظومة الصحية والمستشفيات. «أهم شيء بالنسبة لنا الإعمار»، تقولها كمن يضع عنوانًا لحياة مؤجلة، تنتظر قرارًا يعيد ترتيب الأولويات.


خيامٌ فاشلة
في تصريح لـ«عُمان»، قال محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني الفلسطيني، إن المنخفضات الجوية حتى 28 ديسمبر 2025 تسببت في انهيار أكثر من 17 بناية سكنية بشكل كامل، فيما تعرضت أكثر من 90 بناية لانهيارات جزئية خطيرة، ما يشكّل تهديدًا مباشرًا لحياة آلاف المواطنين. أرقام، بحسب بصل، تكشف اتساع رقعة الخطر وتحوّل الشتاء إلى أزمة إنسانية مركبة.


وأوضح بصل أن نحو 90% من مراكز الإيواء غرقت بشكل كامل نتيجة السيول ومياه الأمطار، وأن كافة خيام المواطنين في مختلف مناطق القطاع تضررت وغرقت، ما أدى إلى فقدان آلاف الأسر لمأواها المؤقت، وتلف الملابس والأفرشة والأغطية، وفاقم من المعاناة الإنسانية في مشهد يتكرر مع كل منخفض.


وأشار إلى أن طواقم الدفاع المدني تلقت أكثر من 5000 مناشدة واستغاثة منذ بدء المنخفضات الجوية، في وقت أسفرت فيه التداعيات عن وفاة 17 مواطنًا، بينهم أربعة أطفال نتيجة البرد القارس، بينما توفي الآخرون جراء انهيارات المباني. أرقام تعكس ضغطًا غير مسبوق على الطواقم وإمكاناتها المحدودة.


وختم بصل بتجديد الدعوة العاجلة إلى العالم والمجتمع الدولي للتحرك الفوري لإغاثة المواطنين وتوفير الاحتياجات الإنسانية الطارئة، مؤكدًا أن الخيام أثبتت فشلها الكامل في قطاع غزة، ومطالبًا بعدم إدخالها قطعيًا، والبدء الفوري بعملية إعادة الإعمار وتوفير مساكن آمنة تحفظ كرامة الإنسان وتحمي حياته.