«عمان»: قاد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- سلطنة عُمان في عام 2025 بحكمة نادرة في عام كان من أكثر أعوام القرن الحادي والعشرين تأثيرا على أمن واستقرار الشرق الأوسط، سواء على مستوى قواعد الاشتباك أو محاور التحالفات الدولية أو على مستوى تآكل النظام العالمي وانتهاء فاعلية قواعده إلى حد بدا فيه الحديث عن مرحلة اللانظام أو ما بعد النظام.
بقيت سلطنة عُمان محافظة على استقرارها وهدوئها، بل إنها واصلت القيام بدورها المعروف في التهدئة والجمع بين الفرقاء ونجحت في الكثير من وساطاتها التي أثرت في مسار الأحداث في المنطقة.
وكان واضحا أن المسار الذي يسلكه جلالة السلطان المعظم يحاول الموازنة بين الداخل والخارج واعتبار الإصلاح الداخلي والسياسة الخارجية مسارين داخل منظومة واحدة، لا خطين متوازيين. لم يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن عاهل البلاد المفدى كان يقف على رصيد تاريخي راكمته عُمان عبر تاريخها الطويل وخبرتها في فهم توازنات الإقليم وطموحات الفاعلين الأساسيين فيه.
لم يصاحب الحراك العُماني الكبير ضجيجا إعلاميا أو استعراضا سياسيا.. لا يعود الأمر إلى ضجيج آخر ناتج عن معارك وفوضى الشرق الأوسط ولكن الأمر كان يتعلق بالصرامة العُمانية في إدارة مثل هذه الملفات الحساسة، تلك التي تعتمد على فكرة تقوية آلة الدولة في الداخل، ثم توظيف المصداقية التي يصنعها هذا الانضباط في إبقاء الأبواب مفتوحة في إقليم بدت فيه الكثير من الأبواب موصدة.
وهذه القراءة للصورة لا تتكئ على المرجعيات الرومانسية لمعنى «الاعتدال» العُماني.. إنها قراءة عملية لمعنى القوة. ودرجت منطقة الخليج على تعريف القوة بمقدار ما تملكه الدول من آلة عسكرية ومشتريات دفاعية.. لكن ثمة نوعًا آخر من القوة لا يظهر إلا في لحظات الأزمة، وهو قدرة دولة ما على إبقاء اقتصادها جاذبا للاستثمار فيما المنطقة على حافة الانفجار؛ وقدرتها على استضافة أحاديث لا تستطيع عواصم أخرى استضافتها؛ وقدرتها على خفض التصعيد من دون أن تقدّم نفسها باعتبارها المنقذ الوحيد؛ وقدرتها على ترجمة الدبلوماسية إلى أثر ملموس في حياة الناس في لحظة تبدو كل الأمور تذهب إلى النار والبارود.
من هذا المنظور، يمكن قراءة عام 2025 في عُمان بوصفه «عام السلطان هيثم»، سعيا لترسيخ ما تقول عُمان إنها تجسّده منذ زمن وهو أنها تُنتج الاستقرار عبر تقليل كلفة الصراع، وتحصن مجتمعها من العدوى الإقليمية.
الأمانة التاريخية
أعاد جلالة السلطان المعظم في خطابه بتاريخ 11 يناير 2025 قراءة السياق التاريخي الذي تأسست فيه عُمان قبل آلاف السنين وكيف استطاعت أن تحافظ على كينونتها واستقلالها عبر العصور رغم أن أنماط حكم مختلفة تعاقبت عليها «أدى كلٌ منها دوره الحضاري وأمانته التاريخية» مستذكرا -حفظه الله ورعاه- «قادة عُمان الأفذاذ على مر التاريخ» الذين «حملوا راية هذا الوطن ووحدوا أمته وصانوا أرضه الطاهرة ودافعوا عن سيادته»، مؤكدا أنه يحمل نفس الراية «على الطريق ذاته» معاهدا الله «ألا يُثنينا عن عزمنا عزم ولا تشغلنا عن مصلحة وطننا مصلحة، تعضدنا في ذلك أمة مباركة بفضل الله مشرفة بدعاء نبيه الكريم».
وأعلن جلالته في هذا الخطاب يوم عشرين نوفمبر من كل عام يوما وطنيا لسلطنة عُمان «تكريما لأسلافنا من السلاطين واستحضارا ليوم مجيد من تاريخ عُمان الحافل بالأيام المشرقة». ويوم العشرين من نوفمبر هو «اليوم الذي تشرفت فيه الأسرة البوسعيدية بخدمة هذا الوطن العزيز منذ العام 1744 للميلاد على يد الإمام المؤسس السيد أحمد بن سعيد البوسعيدي الذي وحد راية الأمة العُمانية وقاد نضالها وتضحياتها الجليلة في سبيل السيادة الكاملة على أرض عُمان والحرية والكرامة لأبنائها الكرام وجاء من بعده سلاطين عظام حملوا رايتها بكل شجاعة واقتدار وأكملوا مسيرتها الظافرة بكل عزم وإصرار».
مؤكدا الالتزام «بالمبادئ والقيم التي شكلت نسيج أمتنا العُمانية نصون وحدتها وتماسكها ونسهر على رعاية مصالح أبنائها رافضين أي مساس بثوابتها ومقدساتها».
**media[3240574]**
هذا الاحتفاء بالتاريخ وبالأسلاف يؤكد للداخل والخارج أن عُمان متمسكة بمبادئها وثوابتها التاريخية وبرؤيتها السياسية ودورها في رفد الحضارة الإنسانية بكل ما تستطيع من قيم ومبادئ ونتاج ثقافي وفكري واجتماعي.. وفيه تأكيد للجميع على عراقة عُمان وتاريخها الضارب في القدم. وفي هذا إجابة على الكثير من الأسئلة التي تطرح حول «اختلاف عُمان». إن التاريخ الممتد إلى الحاضر يملك الإجابة على مثل هذا السؤال المعقد.
وانتقل جلالة السلطان المعظم من السياق التاريخي الذي تأسست فيه عُمان وتشكلت فيه حضارتها العريقة إلى اللحظة الراهنة التي تشهد عملية تحديث وتطوير في مختلف البنى الاقتصادية والاجتماعية والإدارية ومن ضمنها موضوع الخروج من المركزية في إدارة المحافظات. مؤكدا جلالته على «مواصلة منح المحافظات المزيد من الصلاحيات والدعم في مختلف القطاعات لتصبح مراكز اقتصادية تقود النمو الاقتصادي بالبلاد».
وأكد جلالة السلطان على أهمية تطوير البيئة الاستثمارية والتجارية معبرا أنها «ضرورة أساسية لدفع عجلة التنمية بالبلاد، ولذلك، فقد وجهنا الحكومة بتقديم المزيد من التسهيلات اللازمة والحوافز التنافسية والبيئة الداعمة للاستثمار، بما يسهل ممارسة الأعمال التجارية لضمان تنويع اقتصادنا الوطني وتحقيق نمو مستدام».
ثم توجه حديث جلالته بعد التأسيس التاريخي والتوجيه الداخلي إلى العالم أجمع داعيا كافة دول العالم «للتضافر من أجل بناء عالم تسوده قيم الإنسانية والعدالة، وتحترم فيه مقدسات كل أمة وهويتها ودينها ومعتقداتها وأخلاقها، وكرامة الإنسان فيه مصانة وحقوقه مكفولة في عالم ينشأ شبابه في توازن وانسجام بين أساسه الروحي ومتطلباته المادية».
دبلوماسية الاقتصاد
حفل عام 2025 بزيارات رسمية لجلالة السلطان لعدد من دول العالم، إضافة إلى أن جلالته استقبل عددا من ملوك وقادة العالم في مسقط. وخرجت كل تلك الزيارات والاستقبالات بتوقيع اتفاقيات شراكة في المجالات الاقتصادية والاستثمارية. إضافة إلى أن جلالته حمل معه رؤية عُمان لعالم تسوده المحبة ويظلله السلام والعدل. كانت الزيارات تهدف إلى تحديد موقع عُمان داخل جغرافيات اقتصادية آخذة في التشكل من بوابة ممرات الطاقة النظيفة، وشبكات اللوجستيات، وشراكات الاستثمار، وبناء سردية ما بعد النفط على نحو يكفي لجذب رأس المال.
في زيارة هولندا في أبريل ظهرت هذه المقاربة بوضوح؛ حيث تم التوقيع على اتفاقية تاريخية لإنشاء أول ممر تجاري عالمي لتصدير الهيدروجين الأخضر المسال، يربط بين ميناء الدقم وعواصم أوروبية مثل أمستردام ودويسبورغ، لتعزيز مكانتها كمركز عالمي للطاقة النظيفة ودعم انتقال أوروبا للطاقة المستدامة. وتتضمن الشراكة تطوير بنية أساسية متكاملة لنقل وتخزين الهيدروجين الأخضر.
هذا المستوى من الاتفاقيات سيستمر حاضرا في مختلف الزيارات إلى حد كان العنوان الأبرز للصحافة طوال العام هو «بناء الشراكات». وهذا العنوان يعبر بشكل واضح جدا عن مرحلة جديدة تنتهجها عُمان بقيادة جلالة السلطان المعظم.
وفي ديسمبر أكد اتفاق الشراكة الاقتصادية الشاملة مع الهند هذا العنوان. والمؤكد أن هذه الشراكة مع الهند تكشف دون أي لبس أن عُمان ترى مستقبلها في أطر اقتصادية قائمة على قواعد، وشراكات يمكن أن تتجاوز مزاج الأخبار الآنية.
تفاهم البحر الأحمر
يُقال كثيرا إن الشرق الأوسط منطقة أزمات دائمة، لكن ليست كل أزمة متساوية التأثير على عُمان. من بين الأزمات التي أولتها عُمان وجلالة السلطان المعظم عناية كبيرة خلال عام 2025 أزمة البحر الأحمر. ففي شهر مايو أسهمت الوساطة العُمانية في تفاهم لوقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة وأنصار الله «الحوثيين» في إطار يلتزم فيه الطرفان بعدم استهداف بعضهما، بما في ذلك السفن الحربية الأمريكية العاملة في ممرات بحرية حساسة. لم تغطِّ الصيغة كل أبعاد الأزمة، لكنها خففت خطر توسع المواجهة الأمريكية - الحوثية في مسرح البحر الأحمر.
تشرح دلالة هذه الوساطة «الحيّز» الذي تتحرك فيه عُمان والدور الحقيقي الذي يمكن أن تقوم به من أجل العالم أجمع.
اليمن وصفقة الأسرى
لم يكتمل العام حتى أنجزت عُمان نصرا دبلوماسيا كبيرا حين وقعت أطراف الحرب في اليمن على اتفاق لتبادل الأسرى وُصف بأنه الأكبر في سياق الحرب. البعض ينظر إلى هذه الصفقات بوصفها «إنسانية»، وهي كذلك، لكنها ليست مفصولة عن السياق السياسي. وهي من أكثر الاتفاقات سياسية لأنها تحتاج حدا أدنى من الثقة في بيئة نادرة الثقة.
كانت الاتفاقية اختبارا في وقت مهم جدا لقدرة النزاع على إنتاج تسوية على المستوى البشري، تستطيع أن تغير الأمزجة وتخلق أثرا فوريا في حياة الناس؛ حيث تستعيد الكثير من العائلات لأبناءها بعد سنوات من الأسر. وترى المجتمعات أن السياسة أعمق كثيرا من الخطابات التي تشاهد على شاشات الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي.
**media[3240573]**بين النظام الداخلي والهدوء الخارجي
من السهل فصل الإصلاح الداخلي عن دور الوساطة، كأن الأول شأن إداري والثاني فن دبلوماسي. لكن عام 2025 يقترح العكس. هناك دول في المنطقة تسعى إلى إسقاط القوة في الخارج مع ترك الداخل ليتآكل ويتمزق.. تعمل عُمان بشكل مختلف تماما، إنها تبني نموذجا يرى في النظام الداخلي ما يجعل الهدوء الخارجي ممكنا.
لا يعني أن عُمان دولة بلا تحديات أو أنها تجاوزت تحدياتها الاقتصادية، كما أنها لا ترى أن الإصلاح المؤسسي ينتج نموا تلقائيا. لكنه يعني أن هناك نضجا في التعامل مع الإصلاح بوصفه جزءا من السياسة الخارجية. فالمستثمرون لا ينظرون إلى الناتج المحلي فحسب، بل إلى قدرة الدولة على بناء القوانين واتساق تطبيقها، واستقرار المؤسسات، وقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها.
ماذا يقول العام عن دور عُمان؟
يمكن تلخيص ما قدمته قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- هذا العام في ثلاث حركات استراتيجية:
أولا: استمرار عملية الإصلاح الداخلي، الإصلاح الاقتصادي والهيكلة المؤسسية وبناء القوانين وجذب الاستثمارات وضبط الإنفاق الحكومي وتعزيز الدخل من مصادر غير نفطية. هذا الأمر جعل عُمان قادرة على امتصاص تأثيرات تراجع أسعار النفط خلال الكثير من فترات عام 2025.
ثانيا: دبلوماسية اقتصاد تتعامل مع الزيارات الرسمية والاتفاقات بوصفها رافعات في مجالات الطاقة واللوجستيات والأطر التجارة، وهي كلها تصنع روابط وشراكات قابلة للاستمرار.
ثالثا: وساطة ترى في خفض التصعيد مصلحة وطنية قبل أن تكون مصلحة دولية وإنسانية.
وكل ذلك يفضي إلى رؤية واحدة لما تريده عُمان أن تكونه في منطقة تتأرجح بين الانفجار والجمود، دولة مستقرة وقادرة في الوقت نفسه على أن تُنتج الاستقرار حولها.
وهذه هي قصة 2025 في سلطنة عُمان بقيادة جلالة السلطان المعظم.. إنها قصة منهج وإصرار هادئ على أن المستقبل سيكون لمن يبني مؤسسات لا لمن يكتفي بإعلان النوايا .
**media[3240592]**