كتب - عبدالعزيز العبري


تواصل سلطنة عُمان جهودها في لمواجهة جريمة الاتجار بالبشر باعتبارها من أخطر الجرائم التي تنتهك الكرامة الإنسانية وتهدد استقرار المجتمع، لما تنطوي عليه من صور متعددة للاستغلال تمس الفئات الأضعف. وفي هذا الإطار أكد مختصون لـ"عُمان" أن التصدي لهذه الجريمة يتطلب منظومة متكاملة تقوم على التشريع الرادع، والحماية القانونية، وبرامج التأهيل والدعم، إلى جانب تعزيز الوعي المجتمعي، بما يسهم في صون حقوق الضحايا وترسيخ مبادئ العدالة وتكامل الأدوار بين الجهات المعنية للحد من هذه الظاهرة.

**media[3239461]**


وفي هذا السياق ينظر الأستاذ الدكتور راشد بن حمد البلوشي رئيس اللجنة العُمانية لحقوق الإنسان، إلى جريمة الاتجار بالبشر بوصفها من أخطر الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لما تنطوي عليه من امتهان مباشر للكرامة الإنسانية، وسلب للحرية، واستغلال للفئات الأضعف في المجتمع. وأشار إلى أن هذه الجريمة، من منظور حقوقي تُعد انتهاكًا صريحًا للحقوق الأساسية المكفولة في النظام الأساسي للدولة والاتفاقيات الدولية والقوانين ذات الصلة، وفي مقدمتها حظر الاسترقاق والعمل القسري والاستغلال الجنسي، فيما يرى من منظور إنساني أن الضحية لا تُعد طرفًا في الجريمة، بل شخص متضرر يحتاج إلى الحماية والدعم وجبر الضرر، لا إلى العقاب أو الوصم.
وأوضح أن اللجنة العُمانية لحقوق الإنسان اضطلعت بدور تكاملي داعم للجهود الوطنية في مكافحة الاتجار بالبشر، تمثّل في الرصد والمتابعة المستقلة، وتلقي البلاغات والشكاوى، ورفع التوصيات إلى الجهات المختصة، فضلًا عن تقديم الرأي الحقوقي بشأن السياسات والتشريعات ذات الصلة، والمساهمة في تقييم مدى التزام المؤسسات بالمعايير الوطنية والدولية، وتعزيز مقاربة حقوق الإنسان في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر.
أدوار مؤسسية
وتطرّق الأستاذ الدكتور راشد البلوشي إلى آليات تعامل اللجنة مع البلاغات، مبيّنًا أنها تلقت شكاوى يُشتبه بارتباطها بجريمة الاتجار بالبشر من الضحايا أنفسهم أو من ذويهم أو عبر جهات ومؤسسات مختلفة، وتعاملت معها بسرية تامة ووفق إجراءات مهنية تراعي سلامة المُبلِّغ والضحية؛ حيث جرى فحص كل حالة من منظور حقوقي والتحقق من مؤشرات الاشتباه قبل إحالتها إلى الجهات المختصة لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة. ولفت إلى أنه خلال السنوات الثلاث الماضية أُحيلت أكثر من عشر حالات يُشتبه بارتباطها بهذه الجريمة، إلا أن التحقيقات التي أجرتها الجهات المختصة بيّنت عدم انطباق الوصف القانوني عليها.
وأضاف: إن اللجنة قدّمت دعمًا حقوقيًا لعدد من القضايا المرتبطة بحقوق العمال، إذ تعاملت خلال عام 2024 مع 240 موضوعًا، شملت المطالبة بالأجور الشهرية، والنقل إلى صاحب عمل جديد، واسترداد جوازات السفر، إضافة إلى تسهيل عودة بعض العمال إلى بلدانهم الأصلية، وذلك في إطار حماية الحقوق وتعزيز العدالة وصون الكرامة الإنسانية.
وأشار إلى أن العلاقة بين اللجنة والجهات الرسمية، ومنها اللجنة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر والادعاء العام، قامت على التعاون والتكامل من خلال تبادل المعلومات، والمشاركة في الاجتماعات واللجان الفنية، والتنسيق في متابعة الحالات ذات البعد الحقوقي، فضلًا عن الإسهام في إعداد التقارير الوطنية وتقديم الملاحظات والتوصيات الحقوقية التي تعزز الاستجابة الوطنية المتكاملة لمواجهة هذه الجريمة.
حماية وتشريع
ونوّه رئيس اللجنة إلى أن الجهود الوطنية عكست التزامًا واضحًا بالمعايير الدولية، موضحًا أن صدور المرسوم السلطاني رقم (2025/78) بإصدار قانون مكافحة الاتجار بالبشر شكّل خطوة نوعية عززت منظومة الحماية القانونية للضحايا، إلى جانب صدور اللائحة الخاصة بعمال المنازل ومن في حكمهم بقرار وزير العمل رقم (2025/574)، والتي عُدّت من السياسات المهمة في مجال حماية هذه الفئة.
ولفت إلى أن سلطنة عُمان كثّفت جهودها لمواجهة الممارسات غير القانونية المرتبطة بسوق العمل، ومن بينها ما يُعرف برسوم التنازل، من خلال محاسبة المخالفين، وتعزيز الرقابة، وتكثيف برامج توعية العمال بحقوقهم القانونية، إلى جانب المضي قدمًا في تنفيذ الخطة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر (2024-2026)، المدعومة بإطلاق الحملة الوطنية "أمان" بوصفها منصة شاملة للتعريف بمخاطر هذه الجريمة وسبل الوقاية منها وآليات الإبلاغ عنها.
جهود توعوية
وأشار الأستاذ الدكتور راشد البلوشي إلى أن اللجنة أسهمت في رفع الوعي المجتمعي عبر تنفيذ برامج توعوية وإعلامية استهدفت العمال وأصحاب العمل والمجتمع بشكل عام، وتناولت الحقوق والواجبات، ومؤشرات الاتجار بالبشر، وسبل الإبلاغ والحماية. وبيّن أن اللجنة اعتمدت خطابًا مبسطًا ومتعدد اللغات؛ حيث أُعد كتيب خاص بحقوق العمال مستندا إلى القوانين الوطنية، جرى ترجمته إلى ست لغات، إلى جانب التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام للوصول إلى الفئات الأكثر عرضة للاستغلال.
وأضاف: إن اللجنة نفذت حملات توعوية ركزت على المسؤولية القانونية والأخلاقية، وسعت إلى إدماج البعد الوقائي في مختلف البرامج للحد من وقوع الانتهاكات قبل حدوثها، مؤكدًا أن مكافحة الاتجار بالبشر مسؤولية جماعية لا تقتصر على الجهات الحكومية، بل تشمل المؤسسات والأفراد، من خلال احترام الكرامة الإنسانية، والالتزام بالقانون، ورفض أي ممارسات تنطوي على استغلال أو تمييز، والإبلاغ عن أي انتهاكات بوصف ذلك واجبًا إنسانيًا وأخلاقيًا وقانونيًا يسهم في حماية المجتمع وتعزيز العدالة.

**media[3239459]**


وفي السياق القانوني، أوضح المحامي الدكتور أحمد بن سعيد الجهوري أن الاعتقاد بانتهاء العبودية مع تطور الحضارة الإنسانية لا يعكس الواقع، إذ ما زالت هذه الممارسات قائمة بصور حديثة تستغل حاجة الإنسان للمال، فيُجبر على أعمال لا يرغب بها، أو يُستغل في أعمال تحط من كرامته، أو يُدفع إلى التسول تحت غطاء جمع التبرعات والصدقات.
وبيّن أن المشرّع العُماني عرّف في قانون مكافحة الاتجار بالبشر الاستغلال بوصفه الاستخدام غير المشروع للشخص، ويشمل الدعارة، وأشكال الاستغلال الجنسي، والرق والممارسات الشبيهة به، والاستعباد المنزلي، والسخرة والعمل القسري، والتسول، والنزع غير المشروع للأعضاء أو الأنسجة البشرية بقصد الاتجار، إضافة إلى إجراء البحوث الطبية الأحيائية على الأشخاص دون سند قانوني. كما أوضح أن الاستغلال الجنسي يُقصد به استخدام شخص أو أكثر في أنشطة أو ممارسات ذات طابع جنسي بوسائل غير مشروعة، كالإكراه أو الخداع أو استغلال الضعف أو الحاجة، بقصد تحقيق مكاسب مادية أو غير مادية.
وأشار إلى أن هذه التعريفات وسّعت نطاق الأفعال المكوّنة لجريمة الاتجار بالبشر، لتشمل صورًا متعددة من الممارسات الشبيهة بالرق، ومنها السخرة والعمل القسري وإجبار الشخص على أداء عمل دون أجر معلوم أو تحت التهديد بالعقاب. ولفت إلى أن المشرّع أولى الجانب المؤسسي أهمية خاصة من خلال النص على إنشاء اللجنة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر التابعة لوزارة الخارجية، والتي تختص بوضع خطة وطنية لمكافحة الجريمة، والتنسيق مع الجهات المختصة والمنظمات الدولية، وإعداد برامج رعاية وتأهيل للمجني عليهم، ومساعدتهم على الاندماج السريع في المجتمع.
وأوضح أن المشرّع راعى البعد الإنساني للمجني عليه، فنصّ على عدم الاعتداد برضاه إذا كان الاستغلال واقعًا عليه، أو كان طفلًا، أو عديم الأهلية أو ناقصها، كما كفل له حق الإيواء أثناء التحقيق والمحاكمة، وجواز إيداعه مراكز طبية أو نفسية للتأهيل، وتوفير الحماية له وللشهود، وعدم مساءلته جزائيًا أو مدنيًا عن أي فعل وقع نتيجة الاتجار بالبشر، إضافة إلى إعفاءه من رسوم الدعوى المدنية.
وأشار إلى أن القانون قرر عقوبات رادعة تمثلت في السجن من ثلاث إلى عشر سنوات، وغرامة لا تقل عن خمسة آلاف ريال عماني ولا تزيد على مائة ألف ريال عماني، مع تشديد العقوبة لتصل إلى السجن لمدة خمس عشرة سنة في حالات معينة، من بينها إذا كان المجني عليه طفلًا أو عديم/ناقص الأهلية، أو في حال تعدد المجني عليهم، أو إذا كان الجاني يحمل سلاحًا، أو كانت له سلطة على المجني عليه كالأصول أو الفروع أو الولي، إضافة إلى عدم جواز النزول عن الحد الأدنى للعقوبة وعدم جواز وقف تنفيذها، مع مصادرة الأموال والممتلكات والعائدات المتحصلة من الجريمة.

**media[3239460]**


رعاية وتأهيل
بدورها أوضحت مروة بنت حسن البلوشية الباحثة القانونية بدار الحماية، أن وزارة التنمية الاجتماعية وفّرت من خلال دار الحماية منظومة متكاملة من خدمات الرعاية الاجتماعية والنفسية والصحية لضحايا الاتجار بالبشر من النساء والأطفال والرجال، ضمن بيئة آمنة تحفظ كرامتهم الإنسانية وتسهم في تمكينهم وإعادة تأهيلهم بما يساعدهم على تجاوز التحديات وتحقيق اندماج إيجابي وفاعل في المجتمع.
وبيّنت أنه جرى في سبتمبر الماضي إنشاء وحدة مستقلة مخصصة لاستقبال وحماية ضحايا الاتجار بالبشر من فئة الذكور، لتكون إضافة نوعية إلى الخدمات المقدمة، إلى جانب ما توفره الدار من حماية للنساء والأطفال. ولفتت إلى أن الدار قدّمت رعاية نفسية بالتنسيق مع المؤسسات الصحية النفسية لمساعدة الضحايا على الوصول إلى حالة من الاستقرار والتوازن النفسي، وإعادة بناء الثقة بالذات، إلى جانب توعيتهم بأساليب ومخاطر الاتجار بالبشر.
وأضافت: إن الدار وفّرت رعاية اجتماعية من خلال إعداد سجل خاص لكل ضحية لدراسة وضعه الاجتماعي، والعمل على إعادة ثقته بالمجتمع الخارجي بما يسهم في تسهيل التعافي والمشاركة المجتمعية، كما جرى صرف مصروف جيب لتغطية بعض النفقات خلال فترة الإقامة، وصرف مخصصات عند السفر لتغطية احتياجاتهم عند مغادرتهم البلاد، إضافة إلى توفير تذاكر السفر بالتعاون مع جمعية دار العطاء.
وأشارت إلى أن الدار قدّمت كذلك الرعاية الصحية والخدمات العلاجية المجانية بالتنسيق مع وزارة الصحة، لضمان خلو الضحايا من الأمراض المعدية، وإعداد سجل صحي متكامل يتضمن التقارير والفحوصات اللازمة بالتعاون مع المؤسسات الصحية الحكومية والخاصة.
وفي الجانب القانوني، أوضحت البلوشية أن دار الحماية وفّرت منظومة متكاملة للحماية القانونية؛ حيث تولت الباحثة القانونية متابعة الإجراءات بالتنسيق مع شرطة عُمان السلطانية والادعاء العام والجهات القضائية منذ لحظة إيداع الضحية وحتى انتهاء القضية، إضافة إلى التعاون مع جمعية المحامين لتوفير خدمات الترافع والدعم القانوني، والتنسيق مع سفارات الدول المعنية عبر وزارة الخارجية لاستكمال الإجراءات القانونية والدبلوماسية اللازمة.
وأضافت: إن الدار نفذت أنشطة ترفيهية ورياضية، وتعاونت مع وزارة الأوقاف والشؤون الدينية لتنفيذ برنامج تثقيفي قدمته المرشدة الدينية، هدف إلى تعزيز القيم الدينية وترسيخ مفاهيم العقيدة والفقه والسيرة النبوية لدى الضحايا، إلى جانب التعاون مع جمعيات المرأة العمانية لتنفيذ أنشطة مثل الخياطة والصناعات الحرفية وغيرها من المهارات التي أسهمت في تمكين الضحايا ودعمهم.
وبيّنت أن إعادة تأهيل ضحايا الاتجار بالبشر تمت عبر برنامج متكامل جمع بين الدعم النفسي والاجتماعي والمهني، وشمل التقييم النفسي الأولي، وجلسات الإرشاد لمعالجة مشاعر الخوف وتعزيز الثقة بالنفس، والدعم السلوكي لتعديل الأفكار السلبية المرتبطة بتجربة الاستغلال، مع ضمان الخصوصية والسرية وتوفير الشعور بالأمان والاستقرار النفسي، إضافة إلى أنشطة ترفيهية وعلاج بالرسم وأنشطة هادفة لتخفيف التوتر.
وأشارت إلى أن المجتمع يؤدي دورًا محوريًا في إعادة إدماج ضحايا الاتجار بالبشر من خلال توفير بيئة داعمة وخالية من الوصم، وتعزيز الوعي بحقوق الضحايا وخطورة هذه الجريمة، وتبني ممارسات إيجابية قائمة على الاحترام وعدم التمييز، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي، وتمكين الضحايا اقتصاديًا، وتعزيز مشاركتهم في الأنشطة المجتمعية، إلى جانب تكامل جهود مختلف مؤسسات المجتمع لتوفير شبكة دعم شاملة تعزز ثقة الضحايا بأنفسهم وتمكنهم من المشاركة الفاعلة في المجتمع.
كما تطرقت إلى التحديات التي واجهت الضحايا بعد الخروج من دائرة الاستغلال، والمتمثلة في الآثار النفسية كالصدمة والقلق والخوف وفقدان الثقة، إضافة إلى التحديات الاجتماعية المرتبطة بصعوبة الاندماج أو الوصم الاجتماعي وضعف الدعم الأسري، فضلًا عن التحديات الاقتصادية المتعلقة بندرة فرص العمل التي تضمن الاستقلال، والتحديات القانونية المرتبطة بتسوية الأوضاع واسترداد الحقوق، والتحديات الصحية الناتجة عن الإهمال أو سوء المعاملة خلال فترة الاستغلال، مؤكدة أن مواجهة هذه التحديات تتطلب برامج حماية وتمكين شاملة تضمن تعافي الضحايا واندماجهم الآمن في المجتمع.