جينيفر سير
ترجمة: نهى مصطفى
خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، مهد دعم الأممية الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتي للأحزاب الثورية المناهضة للرأسمالية الطريق لتوسع الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية.
وبعد انتهاء الحرب الباردة، روّج النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة لليبرالية والديمقراطية، وإن كان ذلك بشكل متفاوت، مما أتاح موجات من التحولات الديمقراطية في جميع أنحاء العالم.
أما اليوم، فإن التعاون السياسي العابر للحدود يدفع نحو الاستبداد. ويكمن الزخم في مزيج من الحكومات السلطوية وغير الليبرالية، والأحزاب المناهضة للنظام، والتي عادةً ما تكون من اليمين المتطرف، والجهات الفاعلة المتعاطفة التي تنسق رسائلها وتقدم لبعضها البعض الدعم المادي.
لا يكمن الرابط بين هؤلاء الفاعلين في مواقعهم على الطيف السياسي، بل في علاقتهم بالمؤسسات الديمقراطية والقيم الليبرالية، بما في ذلك القيود المفروضة على السلطة التنفيذية، وضمانات الحريات المدنية، وسيادة القانون.
فمن القادة غير الليبراليين في دول ديمقراطية تاريخيًا، مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى الحكام المستبدين الراسخين، مثل الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو - الذي يشار إليه غالباً بـ«آخر ديكتاتور في أوروبا» ـ يشتركون في استعدادهم لتكريس السلطة لأنفسهم، وإضعاف الضوابط والتوازنات، ونشر المعلومات المضللة لتقويض المساءلة.
ومن خلال تقويض التعددية ونزع الشرعية عن خصومهم، يقوض هؤلاء القادة، بدرجات متفاوتة، الحقوق السياسية والحريات المدنية. ومن خلال تجميع الموارد، وتضخيم المعلومات المضللة، وحماية بعضهم بعضًا دبلوماسيًا، يشاركون في شبكات غير ليبرالية عابرة للحدود، ترجح قدراتها ونفوذها المتزايدان كفة الميزان العالمي لصالح الاستبداد.
ربما اتضح هذا «التوجه الدولي غير الليبرالي» أكثر في بكين في سبتمبر 2025، عندما وقف ثلاثة من أبرز الحكام المستبدين في العالم - الرئيس الصيني شي جين بينج، وزعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذين تتعاون بلدانهم تعاونًا وثيقًا في الشؤون الاقتصادية والأمنية - معًا، في تحدٍ واضح للمعايير الليبرالية.
لكن تلك القمة لم تكن سوى نقطة في بحر. ففي عام 2024 وحده، رصد مؤشر التعاون الاستبدادي، الذي نشرته منظمة «العمل من أجل الديمقراطية» غير الربحية ومقرها الولايات المتحدة، أكثر من 45 ألف اجتماع رفيع المستوى، وشراكات إعلامية، وغيرها من مظاهر التنسيق بين «الأنظمة الاستبدادية، والحكومات ذات الميول الاستبدادية، وأحزاب المعارضة ذات الميول الاستبدادية» حول العالم.
في حين يتراجع التعاون بين الديمقراطيات. كان دعم الغرب للديمقراطية في القرن العشرين غالبًا ما يخدم مصالحه الخاصة ومتناقضًا، ولكنه في ذروته شجع التحرر السياسي باستخدام الحوافز الاقتصادية، وشعار أيديولوجي قوي، وضغط دبلوماسي منسق. بعد الحرب الباردة، استمرت شروط المساعدات، والوصول إلى التجارة، والانخراط الدبلوماسي في مكافأة الإصلاح وعزل القمع.
ومع ذلك، تراجع تمويل التحالف الديمقراطي وطاقته وقدراته مع فقدان مؤسسات النظام الليبرالي لقوتها وتذبذب قناعة الأعضاء المتبقين. مع اتساع الفجوة في القدرات بين الأنظمة الاستبدادية والديمقراطية، بات من الأسهل الحفاظ على الحكم الاستبدادي، بينما بات من الأصعب مكافحة التراجع الديمقراطي.
أصبحت الديمقراطية الليبرالية مهددة بالانقراض. يشهد العالم منذ ربع قرن تراجعًا ديمقراطيًا؛ فبحسب مؤشر تنوع الديمقراطيات (V-Dem) واسع الانتشار، تحولت 45 دولة من الديمقراطية إلى الحكم الاستبدادي بحلول عام 2025. ولم يتبق سوى 29 دولة تعتبر ديمقراطيات كاملة.
وبالتعمق أكثر، فإن الوضع أسوأ من ذلك. على مدار القرن العشرين، تمكنت بعض الدول من التعافي بعد تراجعها. ففي أوروجواي، أعقب انقلاب عام 1933 عودة الديمقراطية بعد أقل من عشر سنوات؛ وفي الهند، بشرت انتخابات عام 1977 بانتعاش ديمقراطي متعثر ولكنه مستدام بعد مركزية السلطة التي قامت بها رئيسة الوزراء إنديرا غاندي في سبعينيات القرن الماضي. إلا أن حالات التعافي أصبحت نادرة وهشة في العقود الأخيرة.
تتمتع الأنظمة الاستبدادية بموارد متزايدة، إذ يشكّل سكانها اليوم أكثر من 70% من سكان العالم، وحصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (بتعادل القوة الشرائية) بلغت 46% في 2022، ارتفاعًا من 24% في 1992، ومن المتوقع أن يزداد هذا الرقم. وقد عززت قوتها الاقتصادية والعسكرية وتقدم التكنولوجيا الرقمية قدرة هذه الدول على التلاعب بالسياسة عبر الحدود، بينما ساهم ظهور قوى متوسطة مؤثرة إقليميًا، مثل تركيا، في توسيع نفوذها العالمي. كما تشكّلت معظم المنظمات الإقليمية الجديدة خلال العقود الأخيرة، مثل منظمة شنغهاي للتعاون (2001) وتحالف دول الساحل (2023)، بين أنظمة استبدادية.
اليوم، لا تُدار العلاقات الدولية غير الليبرالية من مركز واحد مثل الأممية الشيوعية، بل تعمل كشبكة متداخلة من عناصر متنوعة ـ مرتزقة روس، أموال الأسر الحاكمة في الخليج، تقنيات المراقبة الصينية والأمريكية، وأحزاب يمينية متطرفة في أوروبا وأمريكا ـ تعزز بعضها بعضًا أحيانًا.
يتخذ التعاون أشكالًا متعددة، أبرزها بين الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا وفنزويلا، حيث تتبادل هذه الدول المعلومات الاستخباراتية العسكرية وتوفر الحماية الدبلوماسية لبعضها. من خلال استخدام الفيتو في الأمم المتحدة، والبيانات المشتركة في المحافل متعددة الأطراف، واتفاقيات الدفاع والتجارة غير الخاضعة للرقابة، تسهم هذه الدول في خلق بيئة متساهلة تجاه الممارسات القمعية وتضعف المساءلة.
كما تقلل الدعم الاقتصادي المقدم للدول الخاضعة للعقوبات من فعالية الجهود الغربية لتعزيز الديمقراطية، وتُرسل الرسائل التي تفيد بأن الحكم الاستبدادي قادر على كسب الشرعية والدعم على المستوى الدولي.
تتدخل الدول الخمس الكبرى ذات الأنظمة الاستبدادية (روسيا، الصين، إيران، كوريا الشمالية، فنزويلا) عبر الحدود بدرجات متفاوتة. فرغم استخدام ذريعة السيادة لصرف الانتباه عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان، تتدخل في الأنظمة السياسية والمؤسسات المدنية للدول الأخرى لدعم جماعات متوافقة مع رؤيتها أو لتشويه المنتقدين. على سبيل المثال، مولت روسيا أحزابًا موالية لها سرًا، ونشرت معلومات مضللة عبر وسائل إعلام مثل RT وسبوتنيك، وشنت حملات على وسائل التواصل وهجمات إلكترونية للتأثير على الانتخابات في فرنسا ومولدوفا ورومانيا.
كما تستخدم القوى المتوسطة الاستبدادية أدوات عسكرية ومالية لتثبيت حكم غير ليبرالي وقمع الانفتاح الديمقراطي. زوّدت تركيا الحكام المستبدين في أذربيجان وليبيا بطائرات بيرقدار TB2 المسيرة، ما منحهم مزايا حاسمة في ساحات القتال.
تشكل الشبكات غير المشروعة جزءًا من هذه التعاونات. تُستخدم شركات وهمية، وتبرعات سرية، ومشاريع عقارية مبهمة لغسل الأموال وتمويل جهات سياسية في الخارج، ما يعزز الفساد ويهدد الديمقراطية.
على سبيل المثال، أنفقت شبكة غسيل أموال في أذربيجان حوالي 3 مليارات دولار كرشاوى لمشرّعين أوروبيين لإسكات الانتقادات ورفع سجل البلاد لدى مجلس أوروبا. وفي إسبانيا، حصل حزب فوكس اليميني المتطرف على قرض بقيمة 10 ملايين دولار تقريبًا من بنك MBH في المجر لتمويل حملته الانتخابية لعام 2023، رغم الطعن في شرعية القرض، ما يعكس تأثير شبكات التمويل غير الليبرالية في دعم الطامحين إلى الحكم الاستبدادي وتحقيق تفوق مالي على دعاة الديمقراطية.
يشكل نشر الأيديولوجيات المؤيدة للسلطوية جزءًا أساسيًا من المشروع غير الليبرالي. تقوم الحكومات والسياسيون والمثقفون ومنظمات المجتمع المدني غير الليبرالية حول العالم بتصميم ونشر رسائل تُرفض فيها القيم والمعايير الديمقراطية، مثل حقوق المرأة.
منذ 2023، يصدر جهاز العمل الخارجي الأوروبي تقريرًا سنويًا يوثق جهود جهات فاعلة مثل الصين وروسيا لنشر معلومات مضللة.
التقرير الصادر في مارس 2025 حلّل أكثر من 500 حادثة تلاعب بالمعلومات عبر أكثر من 38 ألف قناة، وعزّزت العديد منها رسائل مرتبطة بالسياسات اليمينية والشعبوية، لكنها أثرت بشكل أوسع في تقويض الثقة بالديمقراطية وتطبيع الخطاب غير الليبرالي.
تتسم بعض حملات نشر الخطاب بتنسيق دقيق، مثل تجمع «لنجعل أوروبا عظيمة مجددًا» في فبراير 2025 في مدريد، وحضور آلاف المشاركين من أوروبا وأمريكا اللاتينية، وكذلك مؤتمر العمل السياسي المحافظ من الولايات المتحدة الذي عقد مؤخرًا في المجر وبولندا. توفر هذه الفعاليات دعمًا متبادلًا للخطاب المحافظ المتطرف، وتبني شبكات علاقات دولية تعزز الشرعية المحلية والدولية للرسائل السلطوية.
على صعيد آخر، زاد الحزب الشيوعي الصيني من برامج التدريب للقادة والمسؤولين الحكوميين في دول أفريقية، مثل ناميبيا وجنوب أفريقيا وتنزانيا، لتعليمهم ما يمكن تحقيقه «دون فوضى الديمقراطية».
كما استغل قادة أعمال مثل إيلون ماسك منذ توليه إدارة تويتر (X) عام 2022 لنشر معلومات مضللة يمينية متطرفة، وتفكيك الضوابط على المحتوى المتطرف، مما ضخم خطاب الكراهية وعرض حرية الصحافة للخطر، وأتاح للسياسيين والمواطنين المستهدفين للأقليات تحييد المعارضة وإعاقة اتخاذ خيارات مستنيرة في الانتخابات.
يدعم القادة ذوو النزعة الاستبدادية بعضهم بعضًا عبر الحدود من خلال العلاقات الشخصية، لكنها غالبًا هشة وغير موثوقة.
على سبيل المثال، عندما واجه الرئيس البرازيلي السابق جاير بولسونارو محاكمة بتهمة التآمر لقلب نتائج انتخابات 2022، أدان ترامب القضاء البرازيلي وفرض عقوبات على القاضي، كما فرض تعريفة جمركية إضافية بنسبة 40% على البضائع البرازيلية، ما اعتُبر جزئيًا عقابًا للحكومة على ملاحقة بولسونارو.
تُظهر الأمثلة الأخرى هشاشة هذه العلاقات: تعاون أوربان وبوتين جعل المجر تعتمد على الغاز الروسي، لكنه تدهور بعد الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022 بسبب عقوبات الاتحاد الأوروبي.
مع ذلك، تظل العلاقات غير الرسمية مهمة، إذ توفر للقادة غير الليبراليين دعمًا ماليًا ودبلوماسيًا وغطاءً للشرعية الخارجية، مما يقلل الضغوط الداخلية ويزيد صعوبة مقاومة التوسع الاستبدادي بالنسبة للمنافسين المحتملين.
لعقود، كانت الشبكات الديمقراطية مهيمنة، وأسهمت في تشكيل النظام العالمي من خلال مؤسسات مثل الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، والناتو، إضافة إلى هيئات مالية وقانونية دولية رسّخت المعايير الليبرالية ووفرت الأمن الجماعي. ومع ذلك، فشلت الديمقراطيات في الحفاظ على مزاياها، إذ سمح تفضيلها للحياد والتوافق لجهات فاعلة غير ليبرالية باختبار حدود هذه المؤسسات، بينما تقلصت الحوافز لدى الدول الأخرى لتبني الديمقراطية بسبب التجارب السلبية السابقة وافتقار الأنظمة الانتخابية للنتائج الاقتصادية المرغوبة.
حتى الخطاب المؤيد للديمقراطية أصبح باهتًا. في المملكة المتحدة، وصفت الحكومات سياستها الخارجية بتعزيز «المجتمعات المنفتحة» دون الدفاع عن الديمقراطية لتجنب إحراج شركائها من الأنظمة الاستبدادية. محاولات مثل قمة الديمقراطية التي دعا إليها بايدن باءت بالفشل، وأظهر الأداء خلال أعوام 2021 و2023 و2024 محدودية التأثير والجذب للجمهور.
تخلّت الإدارة الأمريكية الحالية عن قيادة التحالف الديمقراطي؛ ففي يوليو 2025 أصدر وزير الخارجية تعليمات بتجنب إبداء الرأي في نزاهة الانتخابات والقيم الديمقراطية للدول الأجنبية. كما أدى تفكيك وكالة التنمية الدولية إلى قطع التمويل عن الصحفيين الاستقصائيين ومراقبي حقوق الإنسان، مما أعاق قدرة الجماعات المؤيدة للديمقراطية على الدفاع عن المعايير. أوروبا بدورها قلّصت ميزانيات المساعدات بسبب التقشف، ما زاد من ضعف هذا الدعم.
اليوم، تواجه الديمقراطيات خصومًا أكثر شراسة وابتكارًا وترابطًا، بينما تعتمد على أساليب تقليدية محدودة. لمواجهة النفوذ الدولي غير الليبرالي، تحتاج الديمقراطيات إلى استعادة زمام المبادرة، وجعل القيم الديمقراطية ذات صلة ثقافية للمواطنين، والتواصل معهم مباشرة لإظهار تأثير الديمقراطية على حياتهم اليومية. كما يجب على الديمقراطيات التصدي بشكل أكثر فعالية للتضليل الإعلامي الذي تنشره الأنظمة الاستبدادية. الاتحاد الأوروبي أحرز بعض التقدم عبر قانون الخدمات الرقمية 2022 الذي ألزم منصات كبرى مثل ميتا وإكس بإزالة المحتوى غير القانوني بسرعة، والكشف عن خوارزميات مراقبة المحتوى، والحد من انتشار المعلومات المضللة. لكن الجهود الإقليمية وحدها غير كافية، ويجب على الحكومات الديمقراطية توحيد مواردها ومعلوماتها الاستخباراتية، ووضع معايير مشتركة للمنصات الإلكترونية لتعزيز نزاهة المعلومات.
يعتبر التمويل عنصرا أساسيا لدعم الديمقراطيات. يجب على الحكومات الديمقراطية توسيع وحماية قنوات التمويل لضمان قدرة النشطاء والصحفيين المستقلين ومنظمات المجتمع المدني على التحقيق في الفساد وكشف التضليل دون خوف من الانتقام المالي. يمكن تحقيق ذلك عبر إعفاءات ضريبية، منح مطابقة، وشراكات بين القطاعين العام والخاص لتوجيه أموال المسؤولية الاجتماعية نحو حرية الإعلام والابتكار المدني.
على الجانب الآخر، يجب وقف التدفقات المالية غير المشروعة التي تغذي خزائن الأنظمة الاستبدادية، من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية، تتبع الأصول عبر الحدود، وتعزيز إنفاذ قوانين مثل توجيهات الاتحاد الأوروبي لمكافحة غسل الأموال، قانون ماجنيتسكي الأمريكي، وأحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. وقد أحرز الاتحاد الأوروبي بعض التقدم، مع مبادرة «درع الديمقراطية» كخطوة إضافية، لكن الجهود العامة لا تزال بحاجة إلى تعزيز لعزل الجهات الاستبدادية عن النظام المالي والدبلوماسي الدولي.
تواجه الديمقراطية تحديات في جميع المجالات، ويتطلب الدفاع عنها تعزيز الأنظمة السياسية داخليًا، والتصدي للشبكات غير الليبرالية التي تدعم الحركات الاستبدادية عالميًا. التنسيق الضعيف بين الديمقراطيات يمنح الاستبداد ميزة، وبالتالي فإن تحديث استراتيجيات التحالف الديمقراطي ضروري لمنع مزيد من التراجع.
ـ جينيفر سير أستاذة مشاركة في العلوم السياسية ودراسات أمريكا اللاتينية في جامعة أريزونا.
عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»