الخميس، 13 يونيو 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
(1)
اليوم، هذا المقطع الكهربائي من "يوميَّات" كافكا:
"22 ديسمبر 1910
اليوم، لا أجرؤ حتى على توبيخ نفسي. لو صرخت في هذا اليوم الفارغ لكان للصَّرخة صدى مثير للغثيان".
(2)
البارحة، كثير من أطياف وكوابيس الموت. يبدو أن عزيزاً ما، في مكان ما (على الأرجح، في عُمان)، قد رحل.
حسن جداً، وما الذي أستطيع فعله حيال ذلك؟
الجمعة، 14 يونيو 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
قالوا لي بما معناه إنهم عايروا، وأضافوا، وأنقصوا، ووازنوا مكوِّنات التخدير المطلوبة للجلسة الأولى من الصدَّمة الكهربائيَّة الثُّنائيَّة. لكني، بصراحة، ولأسباب غير موضوعيَّة أبداً ومتحاملة بالكامل، لم أصدِّق تماماً تلك الدِّقة المفرطة التي رأيتها جديرة أكثر بالحسابات الدقيقة التي تليق بكمية ونِسَب المحاليل التي توضع في حالة الإعدام بالحقنة القاتلة المعمول بها في بعض الولايات الأمريكيَّة (في ولايات أخرى ينفِّذون الإعدام على الكرسي الكهربائي، على وزن الصَّدمة الكهربائيَّة، ولا بأس أبداً في ذلك). لكن لم يكن أمامي سوى أن أعقلها وأتوكل.
فور "الإفاقة" (الكلمة غير دقيقة) المتأنيَّة على مضض (وللأمانة والإنصاف، كانت تلك "الإفاقة" مخفورة جيداً بالاستعداد الطبي الأمريكي الدقيق من أشخاص وأجهزة) من الجلسة أحسست بالكثير مما هو أسوأ من التَّنمُّل والخَوَر. شيء ما لاذع جداً في الجسد والروح أكثر مما حدث في الصدَّمات الكهربائيَّة الأحاديَّة السابقة، فشعرت كَمِثل ضفدع صغير وبائس لا ماء يفِرُّ إليه، ولا يابسة يهرب منها.
كنت قد قرأت في مصدر ما أن الاتصال الجنسي بين أنواع مختلفة من الضفادع تتراوح مدته بين ثوانٍ قليلة فقط وحوالي ستة شهور كاملة (في ميثولوجيات وثقافات الدنيا كلها لا شيء يقترب –مجرد اقتراب-- من ذلك). ثواني المتعة القليلة قليلة أكثر مما ينبغي، لكن المرء، في الوقت عينه، ليس مستعداً أن ينفق ستة شهور كاملة من حياته القصيرة أصلاً وهو يزهق وقته جاثماً كالكابوس على بطن مخلوق آخر. كيف يمكن له أن يقرأ ويكتب، ويختلف إلى الحانات والمقاهي، ويرتاد دور السينما، ويسافر، مثلا؟ وكيف تتدبر الضَّفادع أمر تأملاتها الوجوديَّة العميقة، والوفاء بالالتزامات والممارسات اليوميَّة الروتينيَّة من قبيل قراءة الصحف، واقتراف الغيبة والنَّميمة، والذهاب إلى السوبرماركت للتبضُّع؟ حتى في مزرعة الوالد، في صباي، لم أشعر بأي ارتياح للضَّفادع من دون أن أعرف أي شيء عن حياتها.
كثير من الصداع والغثيان، كثير من ضباب في الذاكرة، كثير من شعور بأني في حالة عجز، واستسلام، وخذلان. لا شيء يعذِّب أي إنسان أكثر من الشعور بالعجز أمام حياته (ومماته أيضاً). وفي أية حال، ما الذي يأتي بالمرء لمثل هذه الأماكن المشبوهة ومحاولة إيجاد الحلول غير الشعور بالعجز الكامل؟
كثير من البرزخ، كثير من الرغبة في الاندثار.
السبت، 15 يونيو 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
استمرار الغثيان الفظيع، والصُّداع، والتَّعَرُّق، والرَّعشة.
اسمع يا هذا: المحيط الأطلسي صغير. كل بحيرة على الأرض كبيرة.
أعطوني أقراصاً إضافيَّة. كل هذا يشبه غياباً لا تستطيع حتى أن تنتظره.
الأحد، 16 يونيو 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
منهَك، أنا منهَك جداً، وخائر القوى. عصافير وأقمار ميتة كثيرة على سريري.
ومع انه ليس الموت بالضبط، فقد كانت الكلمات التالية هي الوحيدة التي تتردد، ويتردد أنينها، بين الجدران التي يقع سريري في عُهدَتها: "يا إلهي، ساعد روحي البائسة" (آخر ما تلفظ به إدغَر ألن بو في احتضاره المؤلم، 7 أكتوبر 1849).
الإثنين، 17 يونيو 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
صدمة كهربائية ثنائيَّة أخرى في جانبي الدماغ. نفس الآثار الرهيبة. لا أتذكر أي شيء تقريباً سوى الألم في كل حاسة، وشريان، وعضلة.
قواي الحركيَّة والإدراكيَّة مرتبكة تماماً وبالكاد أستطيع التَّعرف إلى ما حولي. وإذا ما تعرَّفت إليه فإن الأشياء تتحرك أمامي بالعكس والمقلوب (لست فيلسوفاً كي أحاجج أن "العكس" هو "الصحيح"). كل شيء ضبابي، ورمادي، وغائم.
نادمٌ أنا لأني لم أمت لغاية الآن. الموت فعل إرادة، وتراكم انتحاري طويل، وليس شفقة انتظار.
الثلاثاء، 18 يونيو 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
الانتهاء من قراءة "يوميات" كافكا.
شعرت بخلاص يفوق حريَّة كافكا وهو يكتب الكلمة الأخيرة.
الأربعاء، 19 يونيو 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
(1)
صدمة كهربائية ثنائيَّة أخرى. صداع فظيع، وغثيان فاجر ينتقل من أخمص الذاكرة إلى أعلى المعدة، وقيء شبه متواصل على الرغم من فراغ المعدة والقلب من أي شيء.
أفرغتني الكهرباء من كل شيء، ولم أعد قادراً على فعل أي شيء سوى أن أكون جثَّة واعية بالحد الأدنى مما لا ينبغي أن تعيه أصلاً.
هذا فظيع فعلاً.
(2)
اختفاء "يوميَّات" كافكا.
كان الكتاب موضوعاً على المنضدة الصغيرة ذات الجارورين الملاصقة لسريري. لا بد أن يكون المرشد النفسي هو من أخذه. إن كان هذا الحدس صحيحاً فالأسف هو أنه لن يتعلم أي شيء منه ("من الواضح أن الفن لا يستطيع أن يعلَّم أي أحد أي شيء، بالنَّظر إلى أنه، عبر آلاف السنين، لم تتعلَّم البشريَّة أي شيء على الإطلاق"، أندريه تاركوفسكي).
(3)
اليوم، زارتني إملي. كنت قد صارحتها في الهاتف مؤخراً بأني في المصحَّة، وكذبت عليها بالقول إن زيارتي ممنوعة، لكنها لم تبلع الكذبة الباهتة فأتت. الحقيقة هي أن ادعائي بمنع الزيارة لم يكن أقل ولا أكثر من نداء استغاثة مكابِر: أن تقول الشيء وأنت تقصد نقيضه.
لم نتكلم كثيراً (لم أكن قادراً على الكثير من الكلام، في أيَّة حال)، وهي فهمت ذلك وقدَّرته، وكانت تومىء براحة يدها اليمنى مجيئاً وذهاباً رفيقين، وبطيئاً، أن ليس عليَّ أن أقول أي شيء.
طوال وقت الزِّيارة كانت تضع إحدى راحتيها على جبيني ممسِّدة إياه، ثم تمسك راحتيَّ براحتيها، ثم تمسح العرق الذي يتفصد بشكل متقطِّع وخفيف من رأسي ووجهي بإحدى الرَّاحتين، بينما ننظر إلى بعضنا البعض بهدوء غريب. بيدَ أني أظن أنه كان هناك بعض العتاب المخنوق أيضاً في تلك النظرات الصامتة، لكن كلانا نجح في التَّملُّص منه بصورة سلسة تقريباً، وغير موفَّقة بالكامل.
انتابني حزن وفراغ كبيرين حين غادرت إملي بعد أن توسَّلت إليها ألا تأتي ثانيةً (والحقيقة التي في داخلي، مرة أخرى، هي أن الطلب عكسه صحيح تماماً). انصرفت صامتة بابتسامة طيِّبة. حين تكرر التَّذكير الصادر من إحداهن -- إداريَّة أو ممرضة من كوادر المصحَّة – عبر نبرة تزداد صرامتها بانتهاء وقت الزيارة.
بعد انصرافها، فتحتُ الكيس المغلَّف بزهور طبيعية الذي جلبته معها، فوجدت علبة شوكولاتة داكنة (كانت تقول لي دوماً إن هذا النوع من الشوكولاتة يسعف في التخفيف من الاكتئاب الخفيف)، ومختارات من أشعار من أمريكا اللاتينيَّة بالأصل الإسباني بمصاحبة الترجمة الإنجليزيَّة، ودفتراً أنيقاً، وقلماً فاخراً.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عُماني