المكانُ لا يحتوينا فقط لكنه يعزفُنا نغماتٍ حالمة على أوتار الذاكرة، فيصدحُ فينا صوتُه قبل أن ندرك أننا صوته... هذا ما رأيته يوم زرت المكان فترة إعادة تشكيله من جديد وقبل افتتاحه، بدعوة كريمة من صاحبة السمو السيدة الدكتورة غالية بنت فهر بن تيمور آل سعيد في صيف 2023م، لذا فإنني أروِ ما رأيت بعيني أكثر مما قرأت في الكتاب الذي وصلني هدية ثمينة منها. يقول غاستون باشلار(Gaston Bachelar) في كتابه" شعرية المكان" (La Poétique de l'Espace، 1958):" نحن لا نسكن البيت، بل البيتُ يسكننا... إن الصور الأولى للمكان تظلّ ملتصقة بنا طوال العمر، وتُشكّل فينا رنيناً لا ينتهي"، ويضيف في موضع آخر:" إذا سُئلنا أين تُحفظ صورنا الأولى للعالم، فالجواب ليس في الدماغ، بل في زوايا البيت الذي عشنا فيه طفولتنا"، وكأن الفيلسوف الفرنسي كان يقرأ في عيني صاحبة السمو السيدة الدكتورة غالية فهر تيمور آل سعيد وهي تكتب كتابها بتأنٍ واضح. تقول الدكتورة غالية بنت فهر آل سعيد، وكأنها تستعير من هيدغر قوله:" اللغة بيت الوجود"، لتضيف بدورها: والمكان هو بيت الذاكرة، فقد خرج للنور عملٌ لا يُقدِّمُ المتحف فحسب، بل يُعيد توثيق جزء من التجربة العمانية منذ السبعينيات حتى اليوم، عبر لغة روائية دافئة تجمع بين السرد وتأمّل تاركوفسكي (Tarkowski). لتنتج لنا سيرة ذاكرة عُمانية تتنفّس كتابٌ يُقرأ كرواية ويُعاش كتجربة وجودية تقدم له قائلة:" للمكان أبعاد تتضافر فيما بينها، لتشكل رؤية شاملة تجعله يتجاوز الحيّز الجغرافي ليضرب أطنابه في أعماق الروح"(ص9)، وكأنها بذلك صوَّرت فيلمًا لم يُعرض يومًا على شاشة، لكنه يُعرض كل يوم في عيون من يمرّون بمتحف «المكان والناس» في مسقط. ثم طبعت هذا الفيلم كتابًا فاخرًا من الحجم الكبير في ٢٣٩ صفحة، في كلِّ صفحةٍ منه نسمةٌ من بيتٍ عمانيٍّ قديم، وفي كلِّ صورةٍ عينٌ كانت تبكي وهي تودّعُ جدرانَها، غلافه أسود يحاكي غموض المرأة الجالسة في منتصف السواد من أجل إبراز ألوانها هي وما عليها، بثوبها الممشط القرمزي (بتكسيرته الزجزج، وتنجيدته التي تتصل بـ" السنجاف" الأزرق، والذي يبدو أنه لم يتجاوز قياس البتّ ونصف)، ولحافها الأسود المسمى بـ"شيلة نَسف أم حظية" أو" شيلة حشمة"، حاملة على رأسها "المكبّة" التي تُستعمل لعدة استعمالات منها: الطعام، وحفظ أدوات الخياطة التقليدية. أمَّا حبر الكتابة فكان بالأبيض الذي تُضاء به قناديل مطرح، دلالة على نقاء فكرة توثيق المكان وكل ما فيه. وعنوانه «المكان والناس – حكاية متحف وأكثر بقليل»، الكتاب يبدو كقصيدةٌ طويلةٌ كتبتها امرأةٌ بشغفٍ سرديٍّ تفسيريٍّ مُحَبَّب، وأثثته بفهرسةٍ توزعت في صفحاتِه بأناقة مدروسة؛ وهي كالآتي:(في البدء، شغف مبكر، تاجر التراثيات العماني، أحلام لا سقوف لها، حكاية امرأة تدعى سعادة، عودة للجذور، اهتمام عالمي بالمقتنيات، ثقافة متحفيَّة، قلاع وحصون وإرث عظيم، انتعاش اقتصادي، البيت، عمارة بيضاء، مبنى المتحف، من الشراء إلى التدشين، تجهيز المبنى، تصنيف القطع، حياة الناس في بيت عادي لعامة الناس، غرفة العروس، حوش البيت، المطبخ، الغرفة الصغيرة: غرفة الأثاث، غرفة الطفل، الليوان: المجلس الطويل، الغرفة الشتوية، غرفة بيت مصبح، مصبّح من غرفة إلى بيت، آلات موسيقية ومقتنيات نفسية، تبرعات عينية، بطاقات دعوات الأعراس، الثياب العمانية، زجاجات العطر، سوق مطرح، سلع ومنتجات مستوردة، الصناعات اليدوية المحلية، الرسائل الخاصة، وثائق ولوحات فنية نادرة، قوارير طبّية، تغيير المسمى من (غالية للفنون الحديثة) إلى (المكان والناس)، افتتاح متحف غالية للفنون الحديثة، في مواجهة الجائحة، معرض الصور)، عَبَّرَ الكتاب عن ولادة حكاية حية، حيث يلتقي الحجر بالإنسان في رقصة أبدية، فيُصبح كل باب خشبي نافذة على روح، وكل زجاجة عطر قديمة رسالة حبّ من زمن كاد يُنسى، هي قصيدةٌ سردية طويلة، مثلت قراءة في التحوّلات التي طرأت على حياة العمانيين منذ السبعينيات إلى اليوم، فقد خرج للنور عملٌ لا يشبه غيره. ليس سرداً لقطع أثرية أو مقتنيات، بل تأريخاً لتحوّل الروح العمانية منذ نهضة السبعينيات حتى اليوم، مكتوباً بقلم روائية تُحيي الأشياء قبل أن تُحلّلها، وتُبكي القارئ قبل أن تُعلّمه، فاستحال فيها الحبر بحراً، والورق تراباً من مطرح، والحرف ريحاً تهبّ من سوقٍ قديم إلى بيتٍ أبيض في مسقط، تحمل رائحة اللبان على ظهور السفن، وعبق القهوة في دلّة نحاسية لا يزال يغلي في زاوية الليوان؛ لكل عنوانٍ في هذا الكتاب بطل ولكل بطلٍ قصة. اتكأت المؤلفة على شخصيات حقيقية تحمل في طيّاتها عُمان كلها: الحاج محمد علي البلوشي، تاجر التراثيات الذي يحمل في عينيه ريح البحر ودخان اللبان؛ سعادة، المرأة البسيطة التي تُعلّم الكرامة من داخل بيت طيني صغير؛ مصبّح الذي تحولت غرفته إلى بيت كامل في قلب المتحف؛ والسيدة التي ابتلعت الحداثة بيتها، فبكتْه حتى صار جزءاً من ذاكرة الجميع محققة مقولة والتر بنيامين:" أن تروي يعني أن تحافظ على الحياة".
الكادر الأول يفتح على طفلةٍ صغيرة تتجوّل في سوق مطرح، تجمع القطع التراثية كما تجمع الفتاة الزهور، وتزيّن بها ردهات بيتها من أجل المتعة التوثيقية البصرية، تلك الطفلة هي مخرجة الفيلم كلّه، وكاميرته، وبطلتُه في آن. ثم يأتي الكادر الثاني: مبنى يُشترى، يُفرَّغ، يُنظَّف، يُعاد ترتيبه كأنه استوديو ضخم. يتغيّر اسمه من «غالية للفنون الحديثة» إلى «المكان والناس»، لأن من تقف خلف كل هذا الجَمَال أدركت أن الفن الحديث وحده لا يكفي ليحمل روح شعب، والزمن هو البطل الحقيقي، خمس سنوات من التصوير لم تكن لتُسرّع اللقطات، بل لتُبطئها أكثر، حتى نرى ما لا نراه عادةً: كيف تُحوّل الأشياء الصغيرة إنساناً، وكيف يُحوّل الإنسان الأشياء إلى روح. في منتصف الفيلم، تظهر لقطة تأملية طويلة: الدكتورة غالية تقف وحدها أمام جدار فارغ، وتسأل بهدوء: كيف نجمع بين الأصالة والحداثة دون أن نفقد أنفسنا؟ لا إجابة مباشرة، فقط انتقال بطيء إلى لقطة لزجاجة فيمتو صوت المخرجة يهمس خارج الكادر: عن سرّ كثرة زجاجات شراب (الفيمتو) الموزّعة في زوايا، وأركان المتحف المتفرّقة، فتقول « لهذا صلة بحقبة ما قبل السبعينيات، والظروف الاقتصادية التي أدّت إلى ندرة في السكريّات، والحلويّات عامّة، وشراب الفيمتو السائل هذا صنع في مقاطعة لانكشير البريطانية، واستورد بكمّيّات من هذا الشراب السكري حتّى وصل عمان، وكان يُباع في المتاجر الصغيرة»ص206، تستأنف الكاميرا دورانها لتكشف عن علبة مرهم «فيكس» فارغة، وكارتون دواء" أسبرين" من الستينيات، وجواز سفر متهتّك لم يعد يسمح لحامله بدخول أي بلد... إلا بلد الذاكرة. وفي خلفية هذه الحكايات الإنسانية الصغيرة، ترصد السيدة غالية – بعين ثاقبة وفكر منفتح – التحوّل الكبير الذي أصاب عُمان منذ نهضة السبعينيات: كيف دخلت الحداثة بأدواتها وألوانها وأصواتها، ثم كيف ثار عليها البعض لأنها لم تأتِ من روحنا، ثم كيف عادت الجذور تفرض نفسها من جديد، ليس رفضاً للجديد، بل لتؤكّد أن الأصالة ليست ماضياً ميتاً، بل نبضاً يتجدّد. فـ" العودة إلى الجذور ليست ارتداداً، بل هي الطريق الوحيد لنفهم إلى أين نحن ذاهبون"، كما يذكّرنا بذلك إدوارد سعيد، وكأنه يقرأ في صفحات هذا الكتاب. والمُشاهد هو من يكمل الإجابة. آخر كادر: باب المتحف يُغلق ببطء، لكن الصوت يستمرّ. صوت أغنية لم تُكتب كلماتها، لكننا جميعاً نعرف لحنها. هذا الكتاب-الفيلم لا يُقرأ، بل يُسمع ويُرى ويُحسّ داخل الصدر. فتبدأ المَشاهد تتتالى، لكنها لا تُروى، بل تُغنّى. تتجول بنا المؤلفة في غرف المتحف كما لو كانت تتجول في غرف ذاكرتنا الجماعية: غرفة العروس التي أغمي على زائرة حين رأت زوجها يقترب من المجسم فانتفضت ذاكرتها؛ المطبخ الذي لا يزال يعبق برائحة القهوة والحلوى العمانية؛ الليوان الطويل الذي يحتضن أصوات المجالس القديمة؛ غرفة الطفل حيث تُحفظ ألعاب لم تعد تُصنع. آخر كادر: باب المتحف يُغلق ببطء، لكن الصوت يستمرّ. صوت أغنية لم تُكتب كلماتها، لكننا جميعًا نعرف لحنها. هذا الكتاب-الفيلم لا يُقرأ، بل يُسمع ويُرى ويُحسّ داخل الصدر. يقول باشلار أيضًا: «البيت هو جسدنا المُوسّع في العالم». ومتحف «المكان والناس» هو جسدُ عُمان المُوسّع في العالم، جسدٌ يتنفّس، يبكي، يضحك، يتذكّر، يحلم. ليس مجرد متحف، بل استوديو ذاكرتنا كلّها، فُتحت أمامنا لنعود إليه كلما نسينا من نحن. كما قال مارسيل بروست في الجزء الخامس" السجينة" من روايته الطويلة البحث عن الزمن المفقود:" الاكتشاف الحقيقي ليس في رؤية أراضٍ جديدة، بل في رؤية بعيون جديدة"، فالأصالة ليست تمسّكاً بالشكل، بل قدرة على التجدّد، والتراث لا يموت إلا إذا توقفنا عن إعادة خلقه؛ والمكان، في نهاية المطاف، لا يحتوينا فقط بل يعزفنا، ولاحقًا سيتحدث نيابةً عنا.
__________________
شيخة الفجرية أكاديمية وكاتبة دراما عُمانية.

**media[3238512]**