شبَّ جيكوب بالمر وهو لا يعلم شيئا يُذكر عن المهن اليدوية الماهرة (التي تتطلب مهارة عملية) خلاف أنها "تتسخ فيها يداك وملابسك ومرهقة وغير مرغوبة اجتماعيا". لكن لم يستغرق الأمر مع بالمر الذي نشأ في كارولاينا الشمالية أكثر من سنة واحدة من التدريب عن بُعد أثناء جائحة كوفيد لكي يدرك أن التعليم الجامعي ليس خيارا صائبا له.
تخلي عن الجامعة بعد السنة الأولى وقضى السنتين التاليتين في التدريب كفني كهرباء ثم بدأ عمله الخاص في عام 2024. وعلى الرغم من أن عمره 23 سنة فقط لديه الآن مستودع وشاحنة صغيرة وقناة يوتيوب لها أكثر من 33 ألف مشترك يشاهدونه وهو يقوم بإصلاح معدات تتراوح من أجهزة كشف الدخان والى شواحن سيارات تيسلا الكهربائية. وهو يتوقع تحقيق دخل يصل إلى 155 ألف دولار هذا العام حوالي 10% منه من قناة يوتيوب.
يعدد بالمر الامتيازات التي يتمتع بها فني الكهرباء. يقول "أنت تحصل على أجر جيد مقابل عملك. ويدفعون لك لكي تتعلمه." كما تحقق المهنة "قدرا عالٍ من الأمان الوظيفي." في الأثناء يجتاح القلق العديدين من خريجي الجامعات من إحلال الذكاء الاصطناعي الوظائفَ الدنيا لأصحاب الياقات البيضاء (موظفي المكاتب). بالمر لا يشعر بالقلق من ذلك. يقول "سأقوم بتركيب وصيانة توصيلات الكهرباء في مراكز بيانات هذا الذكاء الاصطناعي. أليس كذلك؟"
بالمر ليس الوحيد من أبناء جيل زد (من ولدوا بين 1997 و2012) الذي يعيد النظر في ميزات التعليم الجامعي.
فاليوم يعتقد ثلث الأمريكيين الراشدين فقط أن التعليم الجامعي "مهم جدا"، حسب استطلاع بواسطة مؤسسة الأبحاث جالوب. وتشكل هذه النسبة تراجعا من ثلاثة أرباع في عام 2010. ويقول ربع الأمريكيين أن ثقتهم في جدوى التعليم العالي "ضئيلة جدا" أو لا يثقون البتَّة في جدواه. وإذا توغلنا أكثر سنجد أن العديدين من أولئك الذين ليست لديهم ثقة تذكر في الجامعات يقولون إنها لا تعلِّم المهارات المطلوبة وتكلفتها باهظة. في الواقع ارتفع متوسط الرسوم الدراسية لمدة 4 سنوات في الجامعات العامة بالولايات المتحدة بأكثر من الضعف خلال الثلاثين سنة الماضية بعد حساب التضخم.
وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي يوجد وظائف جديدة كمهندسي البرمجيات الذين يساعدون في نشره بالشركات إلا أنه يزيد من صعوبة حصول الخريجين على أولى وظائفهم.
لقد وجدت دراسات حديثة من جامعات ستانفورد وهارفارد وكينجز كوليدج لندن أن الشركات التي تتبنى الذكاء الاصطناعي التوليدي في أمريكا وبريطانيا تميل إلى توظيف عدد أقل من صغار أصحاب الياقات البيضاء (العاملين المبتدئين في المكاتب.) في نوفمبر كان 6.8% من حملة شهادة البكالوريوس في سن 20 إلى 24 عاما بالولايات المتحدة عاطلين عن العمل مقارنة بنسبة 8.6% من الذين لديهم دبلوما الثانوية فقط. ومن بين خريجي الجامعات الذين وجدوا عملا أكثر من نصفهم يعملون في وظائف لا تتطلب شهادة بكالوريوس بعد سنة من التخرج و73% من الذين بدأوا عملهم في مثل هذه الوظائف (الأدنى من تأهيلهم الجامعي) ظلوا هكذا بعد عشر سنوات لاحقا.
في ذات الوقت يزداد الاهتمام بالوظائف اليدوية الماهرة. على إعلان ظهر مؤخرا في مترو لندن، طُبِع الحوارُ التالي: أيها الذكاء الاصطناعي أَثْنِ هذا الأنبوب. ردّ النموذج اللغوي الكبير قائلا " آسف. لا أستطيع أن أفعل ذلك." ثم يوجه الإعلان النصيحة التالية إلى قارئيه: تعلّم صنعة (مهنة أو حرفة) وأضمن مستقبلك الوظيفي.
إلى ذلك، على منصات التواصل الاجتماعي كإنستجرام وتيك توك يعرض السباكون وفنيو الكهرباء الشباب فيديوهات لعملهم اليومي تسجل عشرات الآلاف من المشاهدات وتعليقات الإعجاب.
وجد استطلاع نشر في يونيو بواسطة رابطة التوظيف الأمريكية أن ثلث الراشدين ينصحون خريجي الثانوي بالالتحاق بمدرسة مهنية أو حرفية. وهذه نسبة أعلى قليلا من الذين يشجعونهم للالتحاق بالجامعة. البعض يأخذ بهذا النصح. فالالتحاق ببرامج مهنية وحرفية لمدة سنتين بالكليات المجتمعية الأمريكية زاد بنسبة 20% تقريبا منذ عام 2020. وارتفع عدد المتدربين النشطين في أمريكا بأكثر من الضعف في الفترة من 2014 إلى 2024، حسب وزارة العمل الأمريكية.
مستقبل عظيم
لا زال الخريجون الجامعيون فوق سن 25 عاما يتمتعون بمعدلات بطالة أقل وتقريبا ضعف الأجر السنوي الوَسَطي لخريجي الثانوي (وسطي بمعنى في الوسط أو المنتصف تماما بين أعلى وأقل أجر - المترجم). لكن إذا أمعنت النظر في أنواع الشهادات (التخصصات) ستكون النتائج أكثر تنوعا. فمن لديهم بكالوريوس في العلوم والتقنية والهندسة أو الرياضيات حصلوا على رواتب سنوية وسطية تبلغ 98000 دولار في عام 2024، وفقا لدراسة بجامعة جورج تاون. وحصل خريجو الآداب والعلوم الإنسانية على دخل وسطي يبلغ 69000 دولار. بالمقارنة يبلغ الراتب السنوي الوسطي لفني المصاعد 106580 دولار.
الفارق في الأجور بين الحِرَف واسع أيضا. فالدخل السنوي الوسطي لفنيي الكهرباء في الولايات المتحدة 62000 دولار لكن الـ 10% الأعلى أجرا يكسب الواحد منهم أكثر من 100 ألف دولار. وكذلك أيضا الشريحة الأعلى من السباكين ومشغلي الغلايات وفنيي ميكانيكا الطائرات وفنيي تركيب خطوط الكهرباء. ولا تتطلب أي من هذه الوظائف شهادة بكالوريوس. لكنها تحتاج إلى تدريب تخصصي.
هنالك أيضا حاجة شديدة لعمال الياقات الزرقاء في قطاعات من شاكلة الصناعة التحويلية المتقدمة والصناعة الدفاعية.
فحوالي 60% تقريبا من الوظائف الجديدة في مجال تصميم وتصنيع الرقائق الإلكترونية التي وجدت وستوجد في أمريكا في الفترة بين 2023 و2030 ستظل شاغرة، حسب توقعات دراسة لرابطة صناعة أشباه الموصلات وشركة أكسفورد ايكونوميكس الاستشارية. من بين هذه الوظائف الشاغرة 40% خاصة بالفنيين وتتطلب فقط دبلوما سنتين. يقول جنسن هوانغ الرئيس التنفيذي لشركة صناعة الرقائق "انفيديا" أن مراكز البيانات للذكاء الاصطناعي ستحتاج إلى مئات الآلاف من فنيي الكهرباء والسباكين والنجارين.
وفي بريطانيا تقدر تقارير الصناعة عن نقص بحوالي 35 ألف عامل لحام مطلوبين للعمل في إنشاء مزارع الرياح البحرية ومحطات الطاقة النووية والغواصات من بين أشياء أخرى. فالعديد من أولئك الذين يملكون المهارات اللازمة يشيخون. ومن المتوقع تقاعد نصف القوة العاملة في مهنة اللحام ببريطانيا بحلول عام 2027.
أحد الحلول لمشكلة نقص المهارات تشجيع المزيد من الشباب لتعلم المهارات المهنية. لكن لا تزال هنالك وصمة اجتماعية تلصق بوظائف الياقات الزرقاء (العمل اليدوي). فالعديد من الآباء يعتبرونها "شاقة ووضيعة وخطرة" وأيضا "مسدودة المسار"، كما يقول سوجاي شيفاكومار الباحث بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن.
ويشير شيفاكومار الى مشكلة أخرى أيضا وهي انعدام التعاون بين المدارس والصناعة والحكومة. فالكليات المجتمعية (كليات السنتين) كثيرا ما تقدم دورات تزيد أعداد الملتحقين لكنها ليست تلك التي تحتاجها الصناعات مما يترك لخريجي التدريب المهني خيارات وظيفية بائسة على الرغم من وجود نقص في المهارات.
تجربة سويسرا
يوجد حل أفضل وهو التعلم من بلدان مثل سويسرا حيث يلتحق حوالي ثلثي الطلاب بالتدريب المهني بعد قضاء 11 سنة في التعليم الإجباري. تقول أورسولا رينولدز الخبيرة في التعليم المهني بالمعهد الاتحادي السويسري للتقانة في زيوريخ، وهو جامعة سويسرية، نجاح هذا النظام يعود إلى مرونته. بمعنى أن الطلاب يمكنهم الانتقال بسهولة بين المسارين المهني والأكاديمي.
في بلدان عديدة يحصل المتدربون في معاهد التدريب المهني على شهادات للعمل في صناعات معينة لكن لا يمكنهم استخدامها للانتقال إلى التعليم الأكاديمي. (بمعنى إنهما مساران منفصلان). وتقول أرنولد "هذا يوزعهم في أقسام منعزلة. وهو خطير جدا." فالنظام المثالي في نظرها يجب أن يتجنب تقسيم الطلاب والمتدربين إلى مسارين مختلفين. كما يجب أيضا ترك الشركات تتولى الدور القيادي في تشكيل المناهج وتدريب الطلاب في أماكن العمل.
بناء الأنظمة مثل النظام السويسري قد يحتاج إلى عقود. في الأثناء، الخيار الأفضل قد يكون برامج الدراسة الجامعية أثناء العمل المهني أو الحرفي بأجر. في هذا النظام تُدفع للطلاب رواتب من صاحب العمل لإكمال دراساتهم الجامعية ويحصلوا على تدريب أثناء العمل في نفس الوقت.
لدى شركة صناعة الأسلحة البريطانية "بي أيه إي سيستمز" برنامج تدريب مهني يستوعب أكثر من 5000 متدرب سنويا يلتحق ثلثهم ببرامج الدراسة الجامعية المقرونة بالعمل المهني بأجر. لاشيه (20 عاما) متدربة ببرنامج دراسة جامعية في هندسة الطيران والفضاء. تنفق لاشيه (لم يفصح عن اسمها الكامل لأسباب أمنية) أربعة أيام كل أسبوع في العمل في تقنيات كابينة القيادة للطائرة المقاتلة الجديدة " تيمْبَسْت." وتقضي اليوم الخامس في الدراسة. تقول عن هذا البرنامج إنه "حلو. جدا جدا جدا جدا."
الإقبال على مثل هذه البرامج (التي تجمع بين الدراسة والعمل) كبير. تلقت شركة بي أيه إي أكثر من 31 ألف طلب لحوالي 1100 فرصة في أحدث دورة لبرامجها، حسب ريتشارد هَيمَر مدير التعليم بالشركة. ويقول "يقينا إنها مجزية " للمتدربين والشركة التي كانت تجد صعوبة في الحصول على خريجين لديهم المهارات المطلوبة.
من البيرجر إلى أشباه الموصلات
تظهر برامج شبيهة في أمريكا أيضا. فشركة صناعة الرقائق الإلكترونية التايوانية "تي إس أم سي" أطلقت مؤخرا برنامجا في ولاية أريزونا حيث تخطط لتشييد ستة مصانع لأشباه الموصلات. نولان كَنِنْغهام (23 عاما) متدرب فني عمليات ضمن برنامج دراسة مقرونة بعمل بأجر. كان يعمل بسلسلة مطاعم وجبات سريعة قبل التحاقه ببرنامج الشركة في أبريل. قرر التخلي عن الجامعة لتجنب الدَّين. يقول "لا أريد إنفاق المال الذي أكسبه على سداد القروض الطلابية طوال 25 سنة قادمة. إنها فقط تفقرك."
لكنه الآن يدرس "النانو تكنولوجي" بكلية مجتمعية على حساب شركة تي إس إم سي وهو في طريقه للحصول على الدبلوم الجامعي المتوسط (سنتين). أما عمله في المصنع فيدور في معظمه حول تحليل البيانات ومراقبة أنظمة التصنيع من جهاز حاسوب. يقول كننغهام: كانت تلك "قفزة هائلة" أن تنتقل من قَلْي وتقليب البيرجر إلى تصنيع أشباه الموصلات. لكنه خيار سهل.