محمد بن سليمان الحضرمي -
في سفح جبلي صغير يحاذي قرية منال من جهة الغرب بولاية سمائل، يتوارى مسجد أثري صغير يطلق عليه اسم «مسجد القصر»، وحوله أبراج شيدت في المرتفعات الصخرية لذلك الجبل، وليس ببعيد عن المسجد تتناثر شواهد القبور، راسمة شكلا فجائيا للمكان، أما البيوت الحديثة فتنحدر عنه باتجاه الشرق، المسجد شيد في الخلاء بعيدا عن القرية، لذلك سمي القصر، حيث يعده الرحل والمسافرون نقطة لبدء قصر الصلاة فيه، أو يقيم فيه المسافرون القادمون من مسافات بعيدة صلاة القصر، أي يقصرون الصلاة فيه، وبعض المساجد تسمى مسجد الجمع، لأن المسافرين يجمعون فيه بين الصلاة، لذلك فإن تسميته مسجد قرية منال الأثري كما يبدو لي بسبب شهرة المسجد بإقامة صلاة القصر فيه، ويبدو لي أن الزمن الذي بني فيه المسجد كان فيه المكان مأهولا بالسكان وبالبيوت، ولكن بمرور الأيام انزاح الناس إلى أسفل السفح، وبقي المكان مهجورا، وتحولت المساحات من حوله إلى مقبرة واسعة، فيما بقي المسجد وما حوله من المعالم التي تذكر الناس بزمن بعيد.
ومنال التابعة لولاية سمائل، قرية ذات إرث تاريخي يعود إلى أواخر الألف الثانية قبل الميلاد، فهناك وراء السفوح الصخرية الواقعة جهة الغرب من القرية، اكتشفت مقبرة أثرية، ودلت الحفريات أن المرحلة السكانية الرئيسية فيها كانت أواخر الألف الثانية وأوائل الألف الأولى قبل الميلاد، حيث قامت في السفوح وعلى فوهات الأودية، وفي هذا الموقع تم العثور على أدوات برونزية ودمى وأصداف وعظام حيوانات، إضافة إلى البعض من النقوش الإسلامية والرسوم الصخرية.
أما مسجد القصر الواقع في هضبة صغيرة، فيتميز بمحرابه الجميل والزخارف الإسلامية التي تبرز براعة النقاش الذي رسم هيكله وأبدع في تنقيشه، ليرسم لوحة زخرفية بقيت إلى اليوم، ولكن بمرور الزمان تداعى المسجد، وتهاوت أسقفه وتشققت جدرانه، وكنت قد زرته قبل عقدين ونصف من الزمان، ووقفت على هيئته القديمة التي وصفتها، بصحبة الشيخ المرحوم محمد بن هلال الهشامي أبو إدريس، فأخذني في جولة داخل القرية، وكانت زيارة المسجد خلال ذلك اليوم من ضمن الجدول، رأيت فيها المسجد بهيئته القديمة، وكان كما بدا أطلالا متداعية، وكان الشيخ الهشامي يطالب بترميم المسجد حتى لا يندثر.
وفي عام 1998م تم الانتهاء من ترميم المسجد وظهر بصورته الحالية، ولكن مما يؤسف له فقد ضاعت منه الوثيقة الخطية التي تبين اسم صانع المحراب، وتاريخ الانتهاء من ترميمه، ولا أدري هل كانت تلك القطعة موجودة في صدارة المحراب قبل الترميم، أم هي من بين ما ضاع وسقط منه، وحين زرته من جديد قبل أيام لم أجد فيه تلك الوثيقة الخطية، التي هي بمثابة شهادة نسب لتاريخ المسجد، فيما بقيت جملة التوحيد (لا إله الا الله محمد رسول الله) في رأس المحراب، ولمزيد من التأكيد رجعت إلى كتاب الباحث الايطالي باولوكوستا الصادر في مسقط مترجما إلى اللغة العربية، بحثا عن صورة ضوئية كانت قد التقطها كوستا لهذا المسجد، ولكنه غفل اسمه، وجاء في التعليق على الصورة المنشورة في الكتاب أنه (أحد مساجد البساتين بالقرب من امطي، وتتكون حلية المحراب من عدد من الأشكال الهندسية التي حفرت في الجص الرطب، كما وضعت عدد من الطاسات الخزفية للزينة، ويتكرر الشكل بطول الإطار على شكل أختام).
وقد صدق كوستا، أن هذا المسجد يعد أنموذجا لمساجد البساتين، لكنه غفل عن ذكر اسم القرية أو اسم المسجد، فيما حدده أنه قريبا من قرية أمطي، وهو كذلك ليس ببعيد عنها، وبالمقارنة بين الصورة القديمة للمحراب والصورة التي عليه الآن ليس ثمة اختلاف كبير بينهما، إذ إن الصورة القديمة ليست فيها الوثيقة التي تحدد اسم صانع المحراب وسنة صنعه له، لعلها سقطت بفعل التصدع قبل أن يزور كوستا المسجد ويكتب عنه.
وبعد بحث في المواقع الإلكترونية عثرت على هذه معلومة تشير أن المحراب صنع في عام 974هـ/ 1567م، وهو نفس العام الذي فرغ فيه النقاش طالب بن مشمل بن عمر بن محمد من نحت محراب مسجد المزارعة داخل سمائل، وقبل هذه الفترة بأربعة أعوام قام النقاش طالب بنحت محراب مسجد الصاروج داخل سمائل أيضا، وهذه المحاريب الثلاثة متشابهة حد التطابق، مما يجعلني أميل إلى أن محراب مسجد القصر بقرية منال من صنع النقاش طالب بن مشمل.
وإلى جانب شهادة التوحيد والتي تعرف بمصطلح (الجملة)، توجد تسعة صحون خزفية تتوزع في جسد المحراب، وهي صحون مشجرة قديمة الصنع، ولا أدري هل تنتمي إلى تلك الفترة أم إنها من إضافة الترميم الحديث، تتوسط المحراب قبة صغيرة تعلوها قبة أكبرن وحولها أربعة صحون متوسطة الحجم، وفي رأس القبة ثلاثة صحون، أحدهما كبير في وسطه نجمة منيرة، يمثل الصحن الشمس الشارقة على سماء المحراب، فيما تمثل الصحون النجوم والكواكب التي تسبح في ذلك الفضاء النوراني الجميل.
ويتألف صحن المسجد الداخلي من ستة سواري صغيرة الاستدارة، تقوم بمهمة رفع سقف المسجد، وما يميزها في مسجد القصر هذا هو أن المحراب تم تصميمه في الوسط، تتوزع السواري عن يمينه ويساره، ومثل هذا التصميم يرجَّح فيه أن يكون بناء المسجد في نفس فترة بناء المحراب.
الصحن الخارجي للمسجد يقع جهة الشرق من المسجد، ومن هذا المكان تظهر الأبراج الصغيرة التي تشبه المباخر في السفح الجبلي المحاذي لمسجد القصر، تعطر المنطقة القديمة بنفحات من الماضي العريق.