في قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ»، هل استخدام لفظة المنسأة بدل العصا من دلالات على احتوائها لخصائص زمنية كما يقول، فهي في السياق كانت سببًا في تأخير دلالة موته؟

لنتعرّف على المنسأة أولا، ثم نتعرف بعد ذلك على دلالة استعمال هذه المفردة دون سواها في هذا السياق القرآني، المنسأة هي العصا الغليظة، فهي ليست أي عصا؛ هذا مما نص عليه الفراء وتابعه جماعة من أوائل المفسرين، فهي ليست أي عصا، وإنما هي عصا غليظة.

واشتقاق هذه المفردة مأخوذ من البعير إذا زجره وطرده ليحثه على السير، ففيها معنى الزجر والطرد والتأخير، فاشتقاق هذه المفردة تتضمن هذه المعاني حاضرة، إذن هي عصا غليظة تُستعمل أكثر ما تستعمل لأجل الزجر والطرد والتأخير.

هذا المعنى -اجتماع هذه المعاني وهذه الأوصاف في هذه المفردة- هو الأنسب لما كان يحمله سليمان -عليه السلام-؛ فقد كان الجن يعملون تحت إمرته، فكان يزجرهم بهذه العصا الغليظة، يخوّفهم ويؤخرهم بهذه العصا الغليظة، وكانت العصا غليظة، ولذلك فإن الذي ناسب السياق هو أن يقال: ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فاستخدام المنسأة هنا استخدام غاية في البيان والبلاغة.

ومعنى التأخير أنهم ظلوا في خدمته إلى أن أكلت دابة الأرض هذه المنسأة، فكأنها أنسأت في أجله وأخّرتهم في تبيّن موته -عليه السلام-، فظلوا يعملون، وكأنها قد أخّرت أجله عندهم، فما تبيّنوا إلا لما خرّ، «فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ»، فهذا هو معنى التأخير، ولذلك كان أنسب ما يكون أن تُستعمل هذه المفردة في هذا السياق، والله تعالى أعلم.

مأموم كان يعتقد أن الإمام يحمل عنه التكبيرات الانتقالية، فكان يقولها تارة وتارة لا يقولها، فماذا يترتب عليه؟

هو أخطأ، ولكن لا يبلغ حد نقض الصلاة وإلزامه بإعادتها أو بقضائها، وإنما يتعلم الصواب ويأتي بالصواب، ولا حرج عليه بإذن الله تعالى فيما مضى، والصواب أن الإمام لا يحمل عن المأموم تكبيرات الانتقال، وإنما يحمل عنه قول: سمع الله لمن حمده، أما ما سواها من تكبيرات الانتقال، فإن المأموم يتابع الإمام قولا وفعلا فيها، والله تعالى أعلم.

في قوله تعالى: «وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى» يقول: وقفتُ عند كلمة لترضى، كلمة تحمل معنى عظيما؛ أن يكون الدافع لكل خطوة هو نيل رضا الله، السؤال يفتح باب التفكير: إذا كان معيار السعي هو رضا الله، فكيف ينعكس ذلك على اختياراتنا اليومية الصغيرة قبل الكبيرة؟

لا شك أنه ينعكس على اختياراتنا في كل أمورنا انعكاس خير وتوفيق ورشد، فغاية سعي المؤمن في هذه الحياة أن ينال رضا ربه -جل وعلا-: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ»، وربنا تبارك وتعالى يقول: «وما أُمِروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء».

فالمسلم من شأنه في كل أمر من أموره: في عبادته وفي سائر عمله، أن يتحرّى رضا ربه -جل وعلا-، فإن فعل ذلك، فإنه سيعيش حالة من الرضا والطمأنينة والإقبال على الله تبارك وتعالى، ووضوح الرؤية والغاية، لا يكون مشتتا في هذه الحياة الدنيا، على خلاف من سواه ممن يضل عن هذه الغاية؛ فلا يعرف أيرضي هو نفسه، أو يرضي رغباته المادية الجسمانية، أو يرضي غروره، أو يرضي مطالب عقله وفكره، أو يرضي ما يبتغيه الناس منه، فيظل في شتات تتنازعه هذه الغايات، وتجنح به ذات اليمين تارة وذات الشمال تارة، فتضطرب نفسه، وتبعا لذلك تضطرب أحواله؛ لأنه يكون في تنازع واضطراب، وتختل عنده الرؤية، ولا يعرف الغاية والهدف، وينعكس ذلك على حياته بمزيد من الضنك والتعاسة، نسأل الله تبارك وتعالى السلامة.

في كتاب ربنا مثال غاية في تقريب الصورة؛ فالله -عز وجل- يقول: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»، يضرب الله -عز وجل- لنا في هذه الآية الكريمة صورة رجل مملوك لشركاء متشاكسين، فكل واحد من هؤلاء الشركاء يأمره بأمر يناقض أمر الشريك الآخر، وهو عليه الامتثال لهذا وذاك لكل هؤلاء الشركاء المتشاكسين، ستضطرب أحواله، ولن ينجز عملا، ولن تهدأ له نفس، ولن يقرّ له قرار، وهكذا حال هذا الذي يضلّ عن سبيل مرضاة ربه تبارك وتعالى؛ تتنازعه كل هذه الرغائب والشهوات والمطالب المتشاكسة المضطربة، فلا تهدأ نفسه، ولا يعرف ما الذي يقدمه وما الذي يؤخره، يستجيب لأي من هذه الرغائب، ويرضي أيها، فيظل في صراع واضطراب، وتسود الحياة في ناظريه، وتتنازعه كل هذه المطالب، فلا يقرّ له قرار، ولا يهدأ له بال، ولا تطمئنّ له نفس.

يقابل هذا: «ورجلًا سلَمًا لرجل»، ليس فيه إلا مالك واحد، وهو سلَم له؛ فلا شك أن الصورتين لا يستويان، فهذا المثال يقرب صورة ذلك الذي يبتغي مرضاة ربه تبارك وتعالى في كل أمر من أموره، وبين هذا الذي تتنازعه أهواء نفسه؛ ففي كل مرة يقدم هوى من الأهواء: مرة يريد أن ينال رضا الآخرين، ومرة يريد أن يظهر بمظهر المتدين، ومرة يريد أن يظهر بمظهر أهل العلم، ومرة يريد أن يرضي من هو فوقه من المسؤولين، ومرة يريد أن يرضي جماهير الناس، ومرة يريد أن يغلب جانب روحه فيرضي هذه الروح، وهكذا هو في شتات، مع أن الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم يبين أنه لا سبيل إلا بإخلاص العبودية له وحده تبارك وتعالى.

ويضرب لنا كما في هذه الآية الكريمة التي استشهد بها السائل بارك الله فيه قصة موسى -عليه السلام- في تعجّله إتيان ميقات ربه، حينما سأله ربه تبارك وتعالى: «وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى»، فهذه المفردة التي كانت في جواب موسى -عليه السلام- لربه تبارك وتعالى تكشف عن الكثير من هذه المعاني؛ فالمسلم عليه دوما أن يخلص عمله وعبادته لله تبارك وتعالى.

يقول ربنا تبارك وتعالى: «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رؤوف بالعباد»، في مقابل صورة ذلك الذي لا يعرف لنفسه وجهة: ما الذي يرضيه؟ «ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام»؛ هذا الذي تتنازعه هذه الأهواء والشهوات والرغائب المتناقضة المتشاكسة، فيظل في حيرة من أمره، وتتخطفه كل هذه الأهواء والرغبات، في مقابل صورة هذا الذي وصفه الله تبارك وتعالى بقوله: «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله»، في أعلى صور ما يمكن أن يبذله المرء، وهو أن يبذل نفسه في سبيل الله تبارك وتعالى، في الجهاد في سبيل الله تعالى، يقول: «ابتغاء مرضاة الله»، لا يفعل ذلك إلا ابتغاء مرضاة الله.

وهكذا نجد في الإنفاق يؤكد لنا ربنا تبارك وتعالى أهمية استحضار هذا المعنى، وهو أن ما يفعله المكلّف، ما يفعله المسلم، لا بد أن يكون متحريا فيه ابتغاء رضوان الله تبارك وتعالى، هذا، والله تعالى أعلم.