تعرّف العالم على جهاته مستمرّ من القدم، أكانت الظروف حربا أم سلما، وسيستمر التعرّف. لذلك تمّ نحت مصطلح الاستشراق، أكان لأسباب تقليدية لها علاقة بالهدف التقليدي للاستشراق المرتبط بالاستخبار، أو لأسباب اقتصادية، وتلك لها ارتباطات متشابكة، أو لأسباب ثقافية وأكاديمية. ولسنا بالطبع في بلادنا العربية (كجزء من الشرق) الذين جرى ويجري التعرفّ المستمرّ على مكانهم، بل إن القوميات تدرس بعضها بعضا حسب الحاجات.
تبع "الاستشراق" مصطلح الاستغراب، والذي يعني تعرّف أهل الشرق ومنهم نحن، على الغرب. وبالرغم من ان الجدل الذي واكب الاستغراب كان أكثر بالطبع من الاستشراق، لأسباب موضوعية، إلا إن ذلك يمكن أن يعدّ معادلا موضوعيا لهذه الظاهرة، وإن لم يكن التعادل بالقدر نفسه اهتماما استراتيجيا.
ولا ننسى ما تمّ في الوقت نفسه من تسمية (الشمال والجنوب)، وإن لم يتم النحت اللغوي، بصيفة (الاستفعال)، لربما لم يتمّ استساغة (الاستشمال والاستجناب)، ولعل جهتي الشرق والغرب تكفي هنا، من باب أنّهما معا يضمان الجهتين الأخريين. ولكن بالرغم من ذلك ظهرت تسمية الشمال والجنوب في حقل الدراسات الدولية، بتركيز خاص على الجنوب الأفريقي والشمال الأوروبي.
إنّ دراسة ظاهرة ما، بتتبع تاريخها، كتاريخ العلم والفن والأدب، عبر مؤتمرات وندوات وكتابات، يفضي دوما إلى عدّة أهداف، يكون أحدها مرتبطا بما بالدراسات المستقبلية، المرتبطة بالأهداف الاستراتيجية العميقة، أكانت تتعلق بالتخطيط أو توليد المعرفة، أو إعادة القراءة الموضوعية بعيدا عن انفعال المراحل المرتبطة بالصراعات، كما في حال ظاهرة الاستشراق الشهيرة عالميا. كذلك، وبسبب توالي الأجيال، فإنّه من الضرورة بمكان تعميق الفهم التاريخيّ لدى الأجيال الشابة التي ستتابع الدراسات، بحيث تبدأ من حيث انتهى الآخرون، في ظل تبادل الخبرات بين الأجيال، فلدى الجيل الشاب من قدرات فكرية ومنهجية تضيف للجيل السابق.
لذلك، يجيء مؤتمر "الاستشراق والرواية الفلسطينية" الذي عقد برعاية وزارة الثقافة في رام الله، بالتعاون المثمر بينها وبين مؤسسة سبيل ومركز بيت القدس للدراسات والبحوث الفلسطينية، في هذا السياق الواعي، لتعميق المفاهيم من جهة، ولخلق فرصة مهمة للبناء على هذا العصف الأكاديميّ المعرفيّ، كون أن ان هذا الحقل، ونعني به حقل الاستشراق، ينطبق عليه ما ينطبق على غيره من أثر التحولات على دراسة الماضي والحاضر والمستقبل.
لقد توزّعت الأوراق ما بين تأصيل المفهوم وتتبع تاريخه من جهة، ويدخل في ذلك ربطه بالكولينيالية، وتعميق البحث معرفيا من ناحية أخرى.
وهكذا، فقد تناول د. عبد الكريم البرغوثي الاستشراق من منطلق نقديّ، أما أ. أحمد الدبش ود. قسطندي الشوملي والإسبانية د. كارمن رويس برافو، والروسي د. ألكسندر كريلوف، فتناولوا الاستشراق الأمريكي، والفرنسي، والإسباني والروسي، على التوالي.
أما فيما يخصّ الربط بالكولينيالية، فقد تناولت د. نبال خليل في ورقتها بروباغاندا الاستشراق ودورها في إنتاج المعرفة الاستعمارية، من خلال برنارد لويس مثالا، في حين تناول د. أحمد البهنسي الاستشراق الإسرائيليّ والقضية الفلسطينية، كذلك كان منطلق كل من د. وليد الشوملي وأنطون شلحت ود. هند البديري ود. جوني منصور وسماح خليفة مرتبطا بالاستعمار والكولينيالية.
معرفيا، كانت ورقة الباحث الروسي د. ألكسندر كريلوف حول الاستشراق الروسي والرواية الفلسطينية، وورقة زميله ديمتري ميكولسكي، عضو معهد الاستشراق في موسكو، عن الثقافة العربية وتقاليد الاستشراق المتوارثة، ورقتين معرفيتين تؤسسان لما نصبو إليه من تأسيس يبحث التحولات التاريخية وصولا إلى الآن.
أما ما قدّمه المؤرخ د. عصام نصّار من عرض للتصوير الفوتوغرافي شمل بدايات الاستشراق وما واكبه من تصوير مدن فلسطين في القرن التاسع عشر، فكان إضافة معرفية، خصوصا أن الباحث نصّار خبير عربيّ وعالميّ في هذا الموضوع، بدأه منذ عقدين على الأقل، فصار مرجعا معرفيا موضوعيا ونقديّا.
ولعّل ورقة المؤرخ الشاب، رئيس لجنة المؤتمر التحضرية، حسام أبو النصر التي تناول فيه نهايات الاستشراق بمفهومه الكلاسيكي التقليدي في ظلّ العولمة والحداثة، وظهور علم الاستغراب المضاد وكردّ فعل على الاستشراق، فإنه يساهم بالتأسيس لدراسة التحولات المعاصرة على ظاهرة الاستشراق.
وقد انسجمت مع هذا التوجه ورقة المؤرخ د. عدنان ملحم التي تناولت "رؤية إدوارد سعيد لدور الاستشراق في تشكيل الموقف الغربي من القضية الفلسطينية"، وتحليل موقفه من اتفاق أوسلو، وهي تصب كما أسلفنا في تناول أثر التحولات على البحث. وفي السياق نفسه، أي بما يرتبط بالتحولات، جاءت ورقة د. حسين الديك "جذور الاستشراق التاريخية وكيفية التشكّل السياسي" لتعمّق ذلك ضمن السياق الوطنيّ والقوميّ. كذلك جاء حديث د. عبد الله عيسى الدبلوماسي الثقافي الفلسطيني في روسيا حول الاستشراق الروسي الإيجابي والأرض المقدسة، كونه لم يرتبط بالاستعمار.
هي دوائر تتداخل علميا، على مستويات دولية متنوعة؛ فالاستشراق الذي تمّ وما زال لأهداف متنوعة، هو ظاهرة إشكالية بحد ذاته، وبذلك فإن دراسته بتتبعه تاريخيا وتحليليا تعدّ أيضا دراسة يفترض فيها التحلي بالموضوعية، حتى وإن كان الموقف تجاهها ليس محايدا تماما.
ثمة ناظم ما بين دراسة تأصيل المفهوم من جهة، وفهم سياقات الاستعمار الغربي تحديدا من جهة أخرى، والمنطلقات المعرفية من جهة ثالثة، ألا وهو إعداد الأجيال لفهم ما كان ويكون، وتشجيعهم على الفهم، وإعادة الدراسة من منظور معاصر جديد، كون المعرفة المتجددة هي من تمنحهم انطلاقة معرفية للفهم ولمقاومة الغزو المستمر الذي هو ثمرة من ثمار دراسة الآخر-المستعمر، خصوصا في ظل سعي الاحتلال لإبادة الممتلكات الثقافية الفلسطينية المرتبط بالنهب الاستعماريّ المستمر بوقاحة.
وأخيرا، في ظل التوصية بتأسيس معهد متخصّص في التاريخ والآثار والرواية الفلسطينية، والتي نراها توصية استراتيجية على المدى البعيد، فإنه عمليا يمكن التعاون المستمر بين المختصين لتنظيم ندوات محددة، ونشر أدبياتها، وتوظيفها معرفيا ووطنيا في مجال استلاب الاحتلال للحقائق، مدعوما من الغرب الذي وظّف دراسته لبلادنا توظيفا استعماريّا، وإن نجا من ذلك علماء وباحثون انحازوا للمعرفة الإنسانية.