اهتمت معظم المقالات والدراسات التي كُتِبت حول رواية "الروع" للكاتب العماني زهران القاسمي بمحاولة تفسير تصرفات بطلها "محجان" الذي يحيا في قرية لا تزال تعيش على تخوم العصور البدائية، دون الالتفات إلى فنيات الرواية وكيف صنع عالم بطله من العدم تقريباً.
حكاية الرواية بسيطة، بطلها محجان يعمل على حافلة لتوصيل التلاميذ إلى مدرستهم، وإذا كانت عاهة دون كيخوتي في عقله وجسده البائس وتصوِّره أن بإمكانه إصلاح العالم وردَّ المظالم بسيفه الخشبي فإن عاهة محجان في طوله الفارع، الذي جعلهم يستعينون به في المدرسة عوضاً عن سارية العلم، وبذلك بدلاً من أن يصبح الطول هيبة تحول إلى نقيصةٍ أو عيبٍ يعايره به الناس في أحاديثهم وحكاياتهم، لكن حياة محجان لا تتمحور حول الحافلة والتلاميذ والمدرسة، وإنما حول مزرعته على أطراف تلك القرية البدائية.
لم يستطع محجان أن يضرب حول المزرعة سوراً بالكامل، فبعض حدودها يقع على مدارج الجبل، وبالتالي أرَّقته تلك الحدود، إذ أن حيوانات الليل مثل الوعول والحمير الجبلية تخترق المزرعة من تلك الثغرة وتدمر محاصيله، ولذلك يفكر محجان في صناعة "الرّوع"، أو خيال المآتة، أو الفزَّاعة، ليخيف تلك الحيوانات، ومعها الغربان والعصافير،
وقد بلغت "الرّوع" من الكمال في صناعتها درجة بدأ معها محجان يخاف منها! يصبح البطل مثل دون كيخوتي فريسة لسخرية أهل القرية، فهم يتصوَّرون أن عزلته في مزرعته النائية جعلته عرضة لمسِّ الجن، وهي نفس النتيجة التي انتهى إليها دون كيخوتي في "لا مانشا"، بعد أن طيَّرت قراءة روايات الفروسية عقله،
لكن الفارق بين الاثنين أن محجان شبه عاقل ويحاول التغلب على وساوسه بينما دون كيخوتي مجنون تماماً ويعيش في عالم خيالي يحارب فيه هرقل العظيم وجيشه العرمرم بينما يحارب في الواقع طواحين الهواء! والسؤال: كيف بنى زهران القاسمي عالمه؟ وكيف تغلَّب على تحديات الكتابة؟ أول تحدٍ هو أن بطله محجان شخص انعزالي، قليل الكلام، يعيش داخل نفسه، ويحاول أن يتجنَّب الناس كي يأمن أذاهم، وهو يقضي معظم يومه في المزرعة بمفرده، أو فلنقل بصحبة الرّوع،
وبالتالي فلا وقائع كبرى ولا حوارات يمكن أن تُروى، وبذلك يصبح السؤال: كيف تتطور الأحداث؟ أو كيف تمضي؟ وكيف يتدفق السرد من لا شيء تقريباً؟! أو من علاقة بين رجل غريب الأطوار وفزَّاعته؟! اقترب زهران من عقل محجان ونقل لنا منه ومضات تشبه لقطات الكاميرا عرَّفتنا على أسرار طفولته ورعبه من مخزن البيت والظلال والأشباح ذوات العيون الحمراء، وكراهيته لتنمر الرفاق عليه، لكن زهران لم يغرقنا في الماضي، وكل تلك الومضات تشبه "نترة" الملح في طبخة الرواية النهائية، أما القدرات الفنية الكبيرة فقد ظهرت في نقل مشاعر محجان وما يفكر فيه الآن، بدءاً من كيفية عقاب حيوانات الليل وتجنب شرها،
وكيف صنع السور ووسَّع مخزن المياه وكيف دانت له السيطرة على جنَّته! كان يمكن أن تنتهي الرواية هنا، لكن لا.
الشر لا ينتهي بسهولة، فالطيور مثلاً لا يردعها السور، وقد فوجئ مرة بعصفور فوق رأس "الرّوع" ومرة أخرى بغراب، وخشي أن تكون تلك الطيور قد فهمت من طول وقفة الروع في نفس المكان أنها ليست إنساناً بإمكانه إيذاؤها، فخطر له أن ينقلها إلى مكان آخر ونقلها فعلاً،
ثم تبدأ تلك الحوادث الغريبة في التتابع، كأن يلمح ظلَّ كائن غريب ما يلبث أن يختفي، ويفكر في الحيوانات البغضية والجن، ثم خطر له أن الرّوع تتحرك وتشعر، ويقرر أن يهبها "صيغة" زوجته،
فهل جُنَّ محجان وصار شبيهاً بدون كيخوتي؟! لقد وصل الأمر إلى المطوّع شيخ البلد، ووجدها فرصة سانحة للتنكيل به ووصمه بأنه السبب فيما حاق بقريتهم من لعنة! الحيلة الفنية الأخرى لزهران هو أنه جعلنا نسير على الحبل طوال الوقت، متأرجحين، وقلقين، نفكر أن الصفحات القادمة من الرواية قد تشهد تحرك الروع فعلاً وتحولها إلى كائن من لحم ودم،
لكنه ما يلبث أن يسخر منا، ويعيدنا إلى واقع أنها مجرد عصاة وأسمال، وبذلك فإن الرواية لم تنزلق إلى الفخ، الذي يُخرجها من رصانة الفكرة إلى شطح الخيال الهجين، وبقيت طوال الوقت وبقينا معها على الحافة نكاد أن نصدق أن الروع تنهض بمجرد أن يغادر محجان مزرعته تتفقَّد المحاصيل وتطارد كائنات الليل وربما تظهر للعائدين من مزراعهم القريبة إلى القرية لتُسلِّي نفسها وتكسر حدة الملل من الوقوف طوال النهار بالقرب من صاحبها محجان! يمكن القول إن زهران القاسمي بشكل ما خلق الرواية من العدم، أو من فكرة بسيطة، وأدخلنا دروب قرية تعيش في كتاب تاريخ قديم، حتى أن أهلها ما زالوا يتحدثون بنفس لغة الأوَّلين، مؤكدين أن محجان قد يتسبَّب بفزَّاعته في أن "يخسف" بها الأرض، والأهم أنه قد أبقانا مشدودين ومنتبهين حتى النهاية،
رغم أن الرواية بطلها شخص واحد وفزَّاعته، بينما تظهر زوجته وأقرانه وزملاء مدرسته وأهل القرية كأشخاص ثانويين موجودين لإكمال تصوره هو عن العالم! إن أمتع ما في رواية "الروع" بخلاف قدرة زهران على خلق الحياة كساحرٍ من قبعته، هي أيضاً تلك اللغة الرصينة السهلة بقدرتها على منحك اللون والرائحة وإكسابك بعض المفردات المعجمية الجميلة، وأظن أن الشاعر داخل زهران أكسبه تلك القدرة الرائعة على تطويع اللغة وتحويلها إلى خيوط من الذهب تلمع تحت الشمس.