تشير استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2025 إلى أهم تحول في سياسة الشرق الأوسط منذ حرب العراق. يهدف الإطار الجديد إلى إعادة توجيه الموارد نحو تعزيز التنافس بين القوى العظمى، مع التركيز على تخفيض التكاليف وتقاسم الأعباء مع الشركاء الإقليميين. وتبقى المصالح الأساسية قائمة: أمن الطاقة، وحرية الملاحة في مضيق هرمز والبحر الأحمر، ومواجهة إيران، وضمان أمن إسرائيل من خلال هيكل الاتفاقيات الإبراهيمية.
ولقد كان هذا التغيير واجبا منذ أمد بعيد؛ فعلى مدى أكثر من عقد، تعاملت السياسة الأمريكية مع الشرق الأوسط بوصفه مشروعا لبناء الديمقراطية. وبدا أن الربيع العربي يؤكد صحة هذا الافتراض.
فعندما اجتاحت الاحتجاجات المنطقة في عام 2011، تذبذبت واشنطن بين دعم المتظاهرين وبين مسايرة حلفائها، مما أدى إلى ارتباك وتقويض للمصداقية لدى جميع الأطراف.
في مصر، بدا أن الولايات المتحدة قد تخلت عن مبارك. وفي ليبيا، أطاحت بالقذافي دون خطة لما سيحدث لاحقا. وفي سوريا، أعلنت أن «الأسد لا بد أن يرحل» ثم لم تفعل الكثير من أجل تحقيق ذلك.
وكان لهذا الارتباك تكاليف باهظة. فبسبب ضعف الدول واستمرار الصراعات اضطرت الولايات المتحدة إلى إدارة الأزمات بمنطق رد الفعل، مع تضييق نطاق تركيزها الاستراتيجي. وتزامنت هذه الفترة مع بروز الصين منافسا رئيسيا للقوة الأمريكية. وظلت واشنطن مستهلكة في تبعات سياسة هي التي أسهمت في إطلاقها. وبينما كانت أمريكا لاهية في ذلك، تحرك خصومها.
كانت إيران أول من انتهز الفرصة؛ فقد أتاح ضعف الدول العربية فرصا للتوسع عبر الوكلاء. وأصبحت العراق وسوريا ولبنان واليمن نقاطا رئيسة في استراتيجية طهران الإقليمية. وأصبح حزب الله قوة عسكرية موازية تمتلك ترسانة من مائة ألف صاروخ وآلاف القذائف. وحول الحوثيون اليمن إلى منصة للإكراه الإقليمي، وبعد أكتوبر 2023، وسعوا هجماتهم لتشمل الطرق البحرية التي تنقل ما بين 12 إلى 15 بالمائة من التجارة العالمية.
ونموذج طهران مثالي لضعف الدولة؛ فوكلاؤها يزدهرون حيثما تعجز السلطة المركزية عن احتكار القوة، وحيثما تكون الحدود منتهكة. وقد وفر الربيع العربي هذه الظروف تماما.
استغلت الصين الفراغ نفسه استغلالا مختلفا؛ فمع تراجع مصداقية الولايات المتحدة وسط تدخلات متضاربة، طرحت بكين نفسها بوصفها بديلا بلا أيديولوجية، مؤكدة السيادة والاستقرار والمشاركة الاقتصادية دونما شروط سياسية. وعلى نحو متزايد بدأت الحكومات الإقليمية، التي خاب أملها في الترويج الأمريكي للديمقراطية، تنظر إلى الصين باعتبار أنها كيان يمكن التنبؤ بأفعاله وله مصالح تجارية بحتة.
توسعت الصين منهجيا. ففي أسواق الطاقة، أصبحت العميل الذي لا غنى عنه، إذ استوعبت معظم صادرات النفط الإيراني، ووفرت لطهران شريان حياة اقتصاديا يخفف من العقوبات الأمريكية. وفي منطقة الخليج، حصلت الشركات الصينية على حصص في مصافي النفط ومنشآت الغاز الطبيعي المسال، وامتدت مبادرة الحزام والطريق لتشمل موانئ من البحر الأبيض المتوسط إلى بحر العرب.
وأقامت شركة هواوي شبكات الجيل الخامس وباعت أنظمة المراقبة، مما أنشأ تبعيات امتدت إلى البنية الرقمية لدول المنطقة. وبحلول أوائل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، تجاوز حجم التجارة الثنائية بين الصين والشرق الأوسط خمسمائة مليار دولار سنويا، متجاوزا بذلك حجم التجارة الأمريكية مع المنطقة. ولم تتحمل بكين أي أعباء أمنية قد توحي بها هيمنتها الاقتصادية. بل استفادت من النظام الذي بقيت القوة الأمريكية تضمنه، بينما كانت تراكم نفوذا لاستخدامه في المستقبل.
تتلاقى هاتان الديناميتان في محور صيني إيراني ناشئ يقوض الاستراتيجية الأمريكية تقويضا مباشرا. وتدعم الصين إيران اقتصاديا وتعززها عسكريا. فعلى الصعيد الاقتصادي، تدر مشتريات الصين من النفط الإيراني، التي تتم في الغالب عبر شبكات شحن مبهمة وصفقات مخفضة، عائدا سنويا بالمليارات يبقي النظام قادرا على الوفاء بالتزاماته المالية رغم العقوبات القصوى.
وعلى الصعيد العسكري، عززت التكنولوجيا الصينية قدرات إيران في مجال الطائرات المسيرة والصواريخ، وهي الأنظمة التي تنتشر الآن بين حزب الله والحوثيين والقوات الروسية في أوكرانيا.
وبهذا المعنى، لا تكون بكين وطهران حليفتين، وإنما هما شريكتان متكاملتان، إذ توفر الصين غطاء اقتصاديا ودبلوماسيا، بينما تحدث إيران اضطرابا استراتيجيا يحقق مصالح كلتيهما بتكلفة منخفضة نسبيا على بكين.
ولهذه الأسباب، فإن لاستراتيجية الأمن القومي لعام 2025 مبررات؛ إذ تعيد صياغة الشرق الأوسط من منظور التنافس بين القوى العظمى بدلا من منظور تعزيز الديمقراطية. لكن تنفيذ هذا التحول يتطلب فهما لأهمية المنطقة في التنافس مع الصين. وفي هذا السياق، ثمة ثلاثة عوامل حاسمة.
أولا، لا يزال النفوذ في مجال الطاقة حاسما، والشرق الأوسط يمتلك ما يقارب نصف احتياطيات النفط المؤكدة في العالم. ولا يزال حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية يعتمدون على هذه الموارد الهيدروكربونية.
وتستورد الصين أكثر من 40% من نفطها، ويمر أكثر من نصف هذه النفط عبر ممرات مائية استراتيجية خاضعة تاريخيا للقوة البحرية الأمريكية. وتسعى بكين إلى تخفيف هذا الضعف من خلال عمليات الاستحواذ على شركات التنقيب والإنتاج وعلاقات التوريد عبر الخليج. وفي حال ضمان الصين لتدفقات طاقة موثوقة مع تنويع مصادرها بعيدا عن الممرات البحرية التي تهيمن عليها البحرية الأمريكية، فهي بذلك تقلص إحدى أهم المزايا الهيكلية للولايات المتحدة.
ثانيا، تجعل الجغرافيا من الشرق الأوسط حلقة وصل محورية بين آسيا وأوروبا وإفريقيا؛ إذ يربط مضيق باب المندب البحر الأحمر بالمحيط الهندي. وهذان ممران لا غنى عنهما. تشكل استثمارات الصين في الموانئ، من بيرايوس إلى جوادر إلى جيبوتي، شبكة تدعم الخدمات اللوجستية التجارية اليوم، وربما الذراع العسكرية غدا. لا يمكن للولايات المتحدة التخلي عن هذه الجغرافيا دون قبول قيود دائمة على قدرتها على استعراض نفوذها العالمي.
ثالثا، إما أن النظام الإقليمي الناشئ عن تشرذم ما بعد الربيع العربي سيعزز أو سيقوض النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. فقد أرست الاتفاقيات الإبراهيمية تعاونا أمنيا بين إسرائيل ودول الخليج، ومن ذلك تبادل المعلومات الاستخباراتية والدفاع الصاروخي المتكامل، بما عزز شراكة الولايات المتحدة وكبح التوسع الإيراني.
وفي المقابل، سمح تقارب بكين المتزايد مع طهران للصين بترسيخ مكانتها بوصفها وسيطا قادرا على تخفيف الصراعات بدلا من ردعها، وأوضح ما تجلى فيه ذلك هو التطبيع السعودي الإيراني الذي تم بوساطة من بكين.
في حال تعمُّق الاتفاقيات الإبراهيمية، سيظل نموذج الشراكة الأمريكية متفوقا استراتيجيا. وفي حال تصدعها، سيصبح نموذج الصين، وهو نموذج الانخراط الاقتصادي المقترن بالوساطة الدبلوماسية لكن دون التزامات أمنية، هو الأكثر جاذبية للفاعلين الإقليميين الساعين إلى منع التصعيد على المدى القصير دون تحالف طويل الأمد.
وقد اختبر هذا النظام في السابع من أكتوبر 2023. إذ أدى هجوم حماس إلى ضغط منسق من الفاعلين الموالين لإيران على جبهات متعددة. إذ أطلق حزب الله آلاف الصواريخ على شمال إسرائيل، وشن الحوثيون هجمات على سفن الشحن في البحر الأحمر، بما أدى إلى تعطيل ممر حيوي للتجارة العالمية، وشنت ميليشيات هجمات على مواقع أمريكية في العراق وسوريا.
عمل المحور الصيني الإيراني في الخفاء؛ إذ مولت مشتريات النفط الصينية الجهاز العسكري الإيراني الذي يسلح ويدرب هذه الجماعات الوكيلة. وعندما اتهمت وزارة الخارجية الأمريكية شركة «تشانج جوانج لتكنولوجيا الأقمار الصناعية»، المرتبطة بالجيش الصيني، بتزويد الحوثيين بصور الأقمار الصناعية لاستهداف السفن الحربية الأمريكية والسفن الدولية في البحر الأحمر، كشف عن مدى ارتباط دعم بكين المباشر بالهجمات على القوات الأمريكية.
وعندما أطلقت إيران أكثر من ثلاثمائة طائرة مسيرة وصاروخ في أبريل 2024، نجحت الدفاعات الأمريكية والإسرائيلية والأردنية والإقليمية المنسقة في تحييد التهديد. وصمد شركاء الاتفاقيات الإبراهيمية. وأثبتت هذه البنية قيمتها في ظل الظروف الصعبة.
لكن الصمود والتوطيد ليسا سواء. فمهمة الرئيس دونالد ترامب تتجاوز إعادة ضبط العلاقات مع دول الشرق الأوسط أو إصلاح أضرار بالعقد الماضي. ويتمثل التحدي الاستراتيجي في تحويل الاتفاقيات الإبراهيمية من سلسلة تطبيعات ثنائية إلى إطار أمني متكامل بقيادة أمريكية، قادر على صياغة النظام الإقليمي على مدار جيل.
ويعني هذا تعميق التعاون في الصناعات الدفاعية، وإضفاء الطابع الرسمي على اتفاقيات تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتوسيع نطاق التعاون. والاختبار المباشر هو سوريا.
فقد أدى سقوط الأسد إلى فقدان إيران لأهم حليف عربي، ولكنه خلق فراغا وجد فيه شركاء واشنطن أنفسهم في مواقف متناقضة؛ فتركيا وإسرائيل تتبنيان رؤى متضاربة لمستقبل سوريا، إذ تدعم أنقرة فصائل تعتبرها إسرائيل تهديدا، وينفذ كلا البلدين عمليات عسكرية مستقلة على الأراضي السورية.
وسيتحدد مدى قدرة واشنطن على ترجمة مفهوم الاتفاقيات الإبراهيمية إلى قيادة إقليمية فعالة، من خلال إدارة هذا التوتر يما يمنع ترسيخ إيران لموطئ قدم جديد أو الانزلاق إلى تجدد الحرب الأهلية.
وتسعى استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 إلى النظر إلى الشرق الأوسط كما هو قائم، لا وفقا لتصوراته في عام 2011.
ويعتمد النجاح على استعداد واشنطن للاستثمار في الشركاء بدلا من الاستثمار في المشاريع، والمنافسة حيثما تستطيع تحقيق الفوز، وإدراك أن الشرق الأوسط ليس مجرد عامل تشتيت عن التنافس بين القوى العظمى، بل هو أحد مسارحه الحاسمة .