بكيت أمس وأنا أستمع إلى فضفضة للفنان المصري الشهير عادل إمام، وهو يتحدث عن علاقته مع أبيه على عتبة شهرته وعمله بالفن. والده الذي كان حازما ودقيقا في تربيته لعائلته لم يعش عمرا يكفي ليرى شهرة ابنه العظيمة. قال عادل إمام والدموع تخنق قلبه بما معناه: أين أنت يا أبي لتراني في شهرتي وسطوعي؟ أين أنت يا حبيبي لتشهد تكريمي في هذه الليلة العظيمة؟ أنت الذي كنت تنتظرني على الباب لتجلدني بسؤالين متكررين: أين كنت؟ ولماذا تأخرت؟
فتح كلام عادل إمام نوافذ الحزن في قلبي وأنا أقرأ بتوسع عن آباء لم يعيشوا ليشهدوا عظمة أبنائهم. يعطينا تاريخ الأدب وسير الأدباء العرب والعالميين تاريخا موازيا أسميه تاريخ الحسرات، أبدأ من كافكا العظيم.
كان والده موجودا في حياته، لكنه لم يرَ شهرته الأدبية التي جاءت بعد وفاته. كافكا فضفض عن شعور دائم بالحسرة والخذلان، ويظهر ذلك بوضوح في رائعته (رسالة إلى الأب)؛ حيث يظهر الألم من عدم الفهم والاعتراف.
وهناك الشاعرة البريطانية الشهيرة إيملي دكنسون التي طبقت شهرتها الآفاق، وكتب عنها آلاف الدراسات وأثرت في أجيال أدبية عديدة، وحولت مسار الشعر العالمي كله، توفى الله والدها قبل أن تنشر نصوصها، وكانت حسرتها فظيعة وهي تبكي في الليل هامسة لأختها: هل تراه أبي يعرف أني مشهورة؟ هنري ميللر العظيم -الذي كره أمريكا، وهرب منها إلى باريس ليصبح أحد أهم عمالقة الرواية العالمية- كانت أمه تخبئه في الخزانة مع آلته الكاتبة حين يطرق بابهم الضيوف؛ وذلك خجلا من كونه كاتبا فاشلا. وهناك نماذج لهذه الحسرة الكاوية صدرت عن الروائي الأمريكي وليم فوكنر، وملفيل، ومارسيل بروست، وجيمس جويس، وكثيرين.
ومن الأدباء العرب من ذاق الحسرة أيضا مثل محمود درويش الذي لم يكن قريبا من والده. كان أقرب لجده، لكنه عبّر مرة عن حسرته؛ لأن والده لم يشهد سنواته المشعة الهائلة. محمد الماغوط أيضا الشاعر السوري المعروف عبّر عن مرارة النجاح المتأخر، وقال: إنه كان يحلم بأن يرى فرحة والده المتوفى به شاعرا يحبه الناس. كذلك الجميل غسان كنفاني الذي فقد والده صغيرا امتلأت قصصه بفكرة الأب الغائب؛ حنينا إلى أب لم يرَ ابنه في عز تحليقه.
لكن الحسرة الأشد دمارا ليست في هذه النماذج. إنها في نماذج أدباء وفنانين ماتوا قبل أن يشهدوا هم أنفسهم عظمتهم وشهرتهم. هذه حسرة قاتلة لا تصيب الفنانين والأدباء أنفسهم؛ فالأموات لا يتحسرون، بل تصيب عائلاتهم والمعجبين بهؤلاء الراحلين. هي من النوع الحاد والمزمن. كلما شاهدنا لوحة لفان جوخ مثلا -الذي مات قبل أن تسيطر شهرته على آفاق الدنيا- نشعر بغصة؛ إذ كيف يموت فنان قبل أن يرى عظمة أعماله؟ لدينا نموذج آخر مهم، وهو كافكا نفسه؛ فقد مات قبل أن يرى مجده وهو يتوزع في الكون. كذلك رامبو الفرنسي -الذي ترك الشعر وهرب إلى التجارة- لم يعرف حتى الآن أن اسمه يتردد آلاف المرات في اللحظة: في أروقة الجامعات والمدارس والبيوت والمكتبات والأمسيات. هناك نماذج عربية كثيرة كالمصري مصطفى صادق الرافعي الذي لم يحظَ باعتراف نقدي عادل إلا بعد وفاته، والفلسطيني حسين برغوثي الذي مات قبل أكثر من عشرين عاما، وهو يذهل العالم الآن بكتبه المختلفة مثل: سأكون بين اللوز والضوء الأزرق، وهناك المصري أمل دنقل، والسوري رياض الصالح الحسين.
آه كم هي حسراتنا نحن قراء ومعجبي هؤلاء الرائعين تفوق حسراتهم على موت آبائهم!