في ندوة أقيمت للشاعر صلاح فائق في الفلبّين سألته إحدى الحاضرات: ما دمت تعيش في هذه الزاوية القصيّة من العالم لمن تقرأ قصائدك؟ فأجاب الشاعر دون تردّد: «على كلبي»!

لم يكن جواب الشاعر العراقي الذي يُعدُّ من أبرز شعراء جماعة كركوك يعبّر عن سخريّة مريرة، بل كان جادّا، فهو حريص على توصيل نصّه إلى قارئ ما! حتى لو كان كلبه، أو حديقة كما يقول في قصيدة حملت عنوان (أقرأ قصائدي على حديقة):

«وضعت نصب عينيّ اليوم

ترتيب كراسي مبعثرة في حديقة

لأقف أمامها

وأقرأ قصائدي»

وليس من قبيل المصادفة أنّ كلبه كان حاضرا في الكثير من قصائده، كما قرأنا في المختارات التي وضعها وقدّم لها بدراسة طويلة شملت ثلث الكتاب الدكتور حاتم الصكر في كتابه «القصيدة دون شعر كثير- تمثيلات الخيال السريالي في تجربة صلاح فائق» الصادر عن دار الشؤون الثقافية ببغداد 2025م.

يقول الصكر: «في قصائده الأخيرة يؤكّد صلاح فائق منازلته لوحدته بخيال سريالي فذّ. إنه يكلّم أنهارا، ويدعو طيورا، وحيوانات وأنهارا وجبالا ليقاسمها حياته»؛ لذا حين تقصف طائرة بيته تحترق الكتب والقصائد، ويهرب كلبه مذعورا، فيحتضن سنجابا كان يبكي في حديقته، فيؤنسن الطبيعة، فالحيوانات تشعر بالحزن، وتبكي، وتندهش، يقول في قصيدة حملت الرقم (527) اختارها الصكر من (1000) قصيدة قصيرة:

«أضع كتبي، أوراقي، كومبيوتري عليها، وكلبي يتطلع إليّ مندهشا» مستشهدا بمطالبات الشاعر تيد هيوز بضرورة «إعطاء مواطنة للحيوانات ووضع الكائنات الإنسانية في تماس مع ذواتها البدائية، وذلك ما يجعل الشعراء متصالحين مع الحيوان بإحضاره في النصوص وتشخيصه بإكسابه بعدا شعوريا».

لقد استقى الصكر عنوان كتابه الذي يقع بـ(296) صفحة من القطع الكبير من عبارة لصلاح فائق هي «أحبُّ كتابة قصيدة دون شعر كثير، وهذا يناقض خطّي الشعري، لكنّي سأحاوله لسبب لا أدركه بعد. هذا يشبه حملك سلّة معبأة بعقارب لتوزعها في المدينة وأنت بلا قفازين»، وهنا تبدو مهمة الشاعر صعبة ومحفوفة بالمخاطر، ويعلّق الصكر: «أن الشعر الكثير الذي لا يريده صلاح فائق في القصيدة المتكتّل والفائض حتى يغرق القصيدة؛ حيث يطغى، ويعلو زبد الكلام الشعري بإيقاعاته وجمالياته الموسيقية المترهّلة، والمرادفات والصور المستهلكة والمستجيبة لمتطلبات الشعر كخطاب»؛ ولهذا فقصيدة صلاح فائق تأخذ منحى حداثيا قاده إلى «كتابة قصيدة مختلفة يصعب حصرها في أسلوب، أو منهج شعري محدّد، فهو ينقاد لبديهة وتلقائية وحرية جعلت تجربته ذات تميّز شعري محدّد حتى داخل ما عرف نقديّا بجماعة كركوك» كما جاء على الغلاف الأخير من الكتاب.

وتستجيب نصوص صلاح فائق لضرورات التواصل «فتميل للتكثيف والتركيز اللغوي والقصر من حيث البناء الفني بينما تستريح للهم اليومي مادة لموضوعاتها ومضامينها». هذه التفاصيل اليومية تبدو عادية لمن يقرأها قراءة عابرة، لكنّها تنطوي على معنى عميق هو ما يُطلق عليه (السهل الممتنع):

«في جيبي فلس واحد

عثرتُ عليه في كركوك

قبل خمسين سنة»

فنحن لا نجد في قصيدة صلاح فائق بلاغة تقليدية ولا تراكيب لغوية ولا زخرفة لفظية، غير أنها ذات أبعاد رمزية، وصور غرائبية من نتاج مخيّلة تنحو منحى سرياليا:

«وطنك أكله حصان من خشب

وجنود من فولاذ

رأيته من سطح بيتي

بينما كنت أنظّف كتابتي من برك وأشنات»

ويستعين بالذاكرة والحنين إلى المكان الأول (كركوك)، وربيعها وهو في إحدى جزر الفلبين النائيّة، لكنّه يختتم المقطع بنتيجة مؤلمة:

«الربيع في كركوك الآن

أيام النرجس ضيف الحقول

أنا المسافر الدائم إلى هناك

لا أصل أبدا»

وتقوم قصيدة صلاح فائق على المفارقة التي تشكّل صدمة للمتلقّي:

«أنا لن أذهب إلى أيّ حرب

في أيّ بلد

سببي بسيط ذكرته سابقا، أكرّره الآن:

الحرب تلطّخ جواربي النظيفة»

ويخاطب الشاعر نفسه ذاكرا اسمه الكامل على طريقة شعراء الفرس المتصوفة كبيدل الدهلوي الذي اعتاد مخاطبة نفسه في نهايات قصائده قائلا «يا بيدل...» فيقول:

«يا صلاح فائق أنا حقا لا أشبهك

توقّفْ إذن عن التباهي بصلتك بي

وبأني بعيد عنك مسافة مترين دائما

وكأننا في مستشفى لنفحص خلونا من

وباء قتل عددا من جيراني وكلبي»

وتتنوع قصائده ما بين الطويلة التي اكتفى الصكر بمقاطع منها، مثل قصيدته (رحيل)، و(قصائد السطر الواحد) التي تتألّف من بضع كلمات من سطر واحد كقوله:

«من شرفتي أرى نملة تمشي في جنازة»

أو: «من أغرب الحقائق أني سأموت في مكان لم أولد فيه»

وهي تشبه التوقيعات -الفنّ المعروف في تراثنا-؛ حيث يجد بعض الباحثين به نموذجا لالتماعات النثر العربي، لكن توقيعات (صلاح فائق) ترسم صورا تمضي بالمخيّلة بعيدا:

«في كل بياض أحصنة تراقب مقبرة»

أو يكتب سطرا يتألف من كلمات بسيطة يلتقط من خلالها مشهدا يوميا:

«أنظر في مرآة فأراني أنظر في مرآة»

وتحت عنوان (جملة مفيدة بثلاث كلمات) يكتب نصوصا من ثلاث كلمات فقط يختزل فيها الكثير، كقوله: «الريف محراث وغيوم»، أو: «الأفق يليق بي»، وهناك مقاطع من نصوص وردت بلا عناوين، فقام الصكر بوضع عناوين لها.

الكتاب دعوة طيبة من الدكتور حاتم الصكر لإعادة قراءة شاعر مهمّ، وكسر عزلته في منفاه الاختياري الفلبّيني.