الشعار الذي أنادي به في مجال الفكر هو «العودة إلى الينابيع الأولى»، وأظن أن هذا يمكن أن يكون سمة المرحلة الراهنة والمقبلة من الفكر. وأنا أستخدم هنا كلمة الفكر لا الفلسفة؛ لأن الفكر وإن كان يشكل روح الفلسفة والتفلسف ويقترن بهما دائمًا، ويعد بذلك بمثابة الأصل والمرجع لكثير من نظريات العلوم الإنسانية؛ إلا أنه يمتد ليشمل أيضًا مجالات الفكر السياسي والاجتماعي، وغيرها.
والحقيقة إنني أستخدم شعار «العودة إلى الينابيع الأولى» بمعنى شبيه ومرتبط بشعار هُوسِّرل «العودة إلى الأشياء ذاتها، وهو الشعار الذي اتخذه منطلقًا للحركة الفينومينولوجية (الظاهراتية) في مسعاها لتصحيح مسار الفلسفة والتفلسف.
ومفاد هذا الشعار أننا ينبغي أن نبحث عن معنى الظواهر وحقائقها كما تتبدى في الظواهر نفسها، أي: في الأشياء ذاتها كما تتبدى في خبراتنا.
ولهذا ينبغي أن نتجاوز كل فكر أو فلسفة تلجأ إلى أفكار ومعتقدات مسبقة عن عالم الظواهر أو الأشياء ذاتها.
هذا الشعار يعبر عن دعوة ضمنية ـ وبشكل غير مباشرـ إلى الرجوع للخبرات الأولى بالأشياء لدى عالم القدماء. وفي ضوء هذا يمكن أن نفهم اهتمام تلامذة هُوسِّرل الكبار من أمثال هَيدِجر وجادامر بعصر القدماء، ولكن اهتمامهم قد اقتصر غالبًا على عصر قدماء اليونان بوجه خاص.
لقد علَّم هيدجر هذا الدرس لتلاميذه، وفيما يذكر جادامر نفسه في كتابه «سنوات التلمذة» أنه في أثناء لقاء هيدجر بتلاميذه وأصدقائه في حفل مسائي أقامه بالغابة السوداء التي يعيش فيها، وبينما شعلة النار متوقدة، قال لهم هيدجر: انتبهوا إلى نار الليل، ثم أردف قائلًا: اليونان.
غير أن دعوتي هنا أكثر اتساعًا من الرؤية السابقة؛ فهي لا تقتصر على فكر اليونان، بل تمتد لتشمل الينابيع الأولى لكل فكر يتبدى في الفلسفة مثلما يتبدى في الدين والفن، بل في الشعر نفسه. والحقيقة أن الفكر الفلسفي ظل حاضرًا في كل نواحي التأمل، بما في ذلك التفلسف نفسه، قبل أن تتحول الفلسفة إلى درس أو تخصص أكاديمي.
فروح الفكر والتأمل الفلسفي كانت تتجلى في الفن والدين أيضًا؛ ومن الشعراء الأوائل أمثال الشاعر الصيني القديم لاو-تسي، مَن لا نستطيع أن نميز في شعرهم بين ما فلسفي وما هو فني جمالي وما هو ديني! ولهذا ينبغي دائمًا أن نرجع إلى الحكمة الأولى كما تجلت لدى حكماء الحضارات القديمة في آسيا وفي مصر، وغيرهما.
تلك الحكمة التي تنبع دائمًا من تأمل الخبرات المباشرة بعالم الأشياء. والحقيقة أن هذا التوجه في فهم روح الفكر أصبح يتجلى الآن في عالمنا المعاصر، وبوجه أخص في عالمنا الراهن، من خلال الاهتمام المتزايد بفلسفة الحياة اليومية، بما في ذلك جماليات الحياة اليومية (وهو موضوع سبق أن كتبت مقالًا عنه في هذه الجريدة الرصينة).
ولا شك في أن كل هذا ينبع ـ في وقت واحد ـ من أمرين مرتبطين في فلسفة هُوسِّرل: فهو ينبع أولًا من شعاره الشهير: «العودة إلى الأشياء ذاتها»، بمعنى العودة إلى خبراتنا المباشرة بعالم الأشياء؛ وهو ينبع ثانيًا من دعوته المتأخرة إلى الاهتمام بمفهومي «العالم المعيش» و«عالم الحياة اليومية».
هذا منحى أراه مهمًا في تصويب مسار الفكر، وفي ذلك ليتنافس المتنافسون.
هذا التوجه الفلسفي الجديد في الفكر الفلسفي وغيره، يحررنا من تلك التقاليد التي سادت عبر معظم تاريخ الفكر الفلسفي الذي طالما انعزل عن عالم الحياة والأشياء، وراح يتوارى تدريجيًّا في عالم المقولات والمفاهيم المجردة والمصطلحات؛ وأصبح شيئًا فشيئًا يعكف على تأمل وتحليل وتفكيك النصوص الفلسفية ذاتها، بدلًا من العكوف على تأمل الحياة والطبيعة والأشياء ذاتها!
والحقيقة أن الفلسفة المعاصرة قد أصبحت مُثقلة في عالمنا الراهن بتصورات مُصاغة في مفاهيم ومصطلحات إلى أن أصبحت في النهاية بمثابة «نص على نص»؛ وبذلك فإنها أصبحت تشكل حاجزًا أو عائقًا يحول دون تأثير الفلسفة في عالم الفكر والإبداع، اللهم فيما ندر من مذاهبها التي اهتمت بعالم الحياة. غير أنه من المهم للغاية التأكيد على أن رؤيتي هنا لا تعني على الإطلاق أن نستدعي أو نكرر نفس الإجابات التي قدمها القدماء عن تساؤلاتهم، وإنما تعني أن نستدعي أسلوبهم في التفكير الذي ينبع أصلًا من الدهشة، تلك الدهشة التي تستدعي بدورها التساؤل، ذلك التساؤل الذي يشبه التساؤل الطفولي الناجم عن الخبرات المباشرة الأولى بعالم الحياة والطبيعة والأشياء ذاتها.
مفاد ذلك كله أنني أظن أن هذا التوجه في الفكر في مجال الفلسفة الذي أنتمي إليه وأدعو- والذي يمتد تأثيره تدريجيًّا إلى مجالات الفكر في العلوم الإنسانية- هو توجه جديد يَسِم المرحلتين الراهنة والمقبلة في عالم الفكر، وخصوصًا في عالم التفلسف؛ وهو توجه جديد يسعى إلى تجاوز الكثير من المناهج والمفاهيم المستقرة في عصر الحداثة، بل يسعى أيضًا إلى تجاوز الكثير من التوجهات والمفاهيم فيما يُسمى بعصر ما بعد الحداثة، وهو العصر الذي لا نزال نعيش فيه حتى الآن.
هذا حديثي المقتضب الذي يليق بالنشر في هذه الجريدة السيارة وإن كانت رصينة، ولكن المعنيين بأمور الفلسفة والفكر عمومًا ربما يجدون شيئًا ما هنا أو هناك يستحق مزيدًا من التأملات المستفيضة.
د. سعيد توفـيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة