ابتداء أرشد القارئ الكريم إلى مقالتي في جريدة عُمان: « الصهيونية ومسألة الدولة من العلموية وحتى الأصولية الدينية»، «وتنامي معاداة السامية بين هتلر ونتنياهو»، ففيهما مقدمة حول وضع اليهود بشكل عام بين الصهيونية العالمية، والسامية العرقية، وتجنبا لتكرار تأصيل المصطلحات وتأريخيتها الذي لا يتحمله مقال كهذا يتطرق إلى قضية إنسانية متعلقة بحادثة مقتل العديد من اليهود المحتفلين بالعيد القومي «عيد الأنوار»، والمسمى في الثقافة اليهودية بحانوكا، نسبة إلى الشموع التي تضاء في أيام العيد، وهي رمزية لانتصار المكابيين على السلوقيين اليونانيين في القرن الثاني قبل الميلاد، وتمكن اليهود من فرض حريتهم، وعودة ممارسة طقوسهم الدينية.
وقع الحادث في 14 ديسمبر 2025م في شاطئ بوندي في سيدني بأستراليا، من قبل أب يسمى ساجد أكرم، أصوله ترجع إلى حيدر أباد الهندية، هاجر إلى أستراليا عام 1998م، شاركه في الحادثة ابنه نافيد أكرم الأسترالي الجنسية بحكم الولادة، ساجد ونافيد قاما بإطلاق النار وقتل حوالي ستة عشر شخصًا، وجرح آخرين، في هذه الأجواء ظهرت شخصية عرفت بالبطولية اسمها أحمد الأحمد من أصول سورية، استطاع أن يتصدى ويوقف نافيد أكرم عن مواصلة جرمه بإطلاق النار، وفعل أحمد الأحمد البطولي أوقف السردية التي سوف تتضخم ضد ما يسمى بالإسلاموفوبيا.
الأصل الذي لا ينازع حوله اثنان أن الحادثة جريمة ضد الإنسانية، لا يبررها عقل ولا دين، فكل الأديان مجمعة على حرمة النفس غير المعتدية، وحرية ممارسة الطقوس المدنية والتأريخية، ولا يحمل المنتسبون إلى عرق أو دين أو وطن ما يفعله من اعتداءات ضد الإنسانية ممن يشابهم في ذلك في أجزاء أخرى من العالم، كالذي حدث مؤخرا في غزة منذ 23 أكتوبر 2023م وما بعده من أحداث جسيمة استمرت لأكثر من عامين.
لابد من التفريق بين المعتدي وغير المعتدي، والأصل السلم بين البشر، وحرمة النفس والعرض والمال، ولا يجوز إثارة الرعب أو الخوف بين الآمنين بأي شكل من الأشكال، ولابد من التفريق بين الديانة والمنتسبين إليها، فوجود نصوص تدعو إلى التطرف في الأديان، ولا تقرأ هذه النصوص في سياقها الظرفي؛ لا يعني أن جميع المنتسبين إليها متطرفون، فكل الأديان فيها نصوص تأريخية، ووقائع ظرفية، لها سياقاتها التأويلية والقيدية، يفهم من ظاهرها التطرف، أو تستغل لإحداث تطرف في وقائع متباينة، كما أن تطرف بعض المنتسبين إليها لا يعم الكل، فكل حادثة تقرأ حسب وقائعها الظرفية، بُعدا عن التعميمات غير المنضبطة علميا ومنهجيا.
هذه الحادثة حتى الآن لا يعرف أسبابها ودوافعها، وهناك إشارات أن وراءها «داعش»، وداعش في العقل الجمعي الغربي ربطت كلية بالإسلام لأجل تضخيم الإسلاموفوبيا، كما استغلت هذه الحادثة في تسويق «معاداة السامية»، وعودة الأسطوانة من جديد في استغلال هذه الأحداث لتبرير جرائم أخرى باسم الحفاظ على السامية ذاتها، وإدخال الأديان والقضايا التأريخية فيها، لهذا فإن مثل هذه القضايا لا ينبغي أن تدرس بعيدا عن المنهجية العلمية، وتفكيكها بعيدا عن الإسقاطات المسبقة والمؤدلجة غالبا لغايات يمينية أو يسارية.
هناك قضيتان مهمتان تتعلقان بالحادثة من بعيد ابتداء، وقد يكون لهما علاقة عن قرب، أولى هذه القضايا متعلقة بالوضع اليهودي في العالم ذاته، كردة فعل لما يحدث في فلسطين عموما، وفي غزة خصوصا، وهذا ما أشار إليه نتنياهو في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي 2024م «إنه يتم لصق أكاذيب خبيثة بالدولة اليهودية هذه الأيام، وتهدف كلمات التشهير السخيفة التي تسعى لطرح إسرائيل بمظهر الدولة العنصرية والدموية إلى نزع شرعية إسرائيل، وشيطنة الدولة اليهودية واليهود مهما كانوا، ولا مفاجأة فيما نشهده من تصاعد مفزع لمعاداة السامية في الولايات المتحدة وحول العالم».
طبيعي أن هذا الوضع يجعل اليهود في وضع غير آمن في العالم، لهذا يظهرون في سفرهم بجوازات وجنسيات مختلفة، ولا يظهرون ديانتهم وتهودهم، لما يرتبط به من قضية أخرى وهي الخطابات العمومية غير المحكمة منطقا وعقلا، من قبل خطابات سياسية ودينية أقرب إلى التعميم والخلط العشوائي، مما يجعل الصورة سلبية في العقل الجمعي؛ ينتج عن ذلك سلوكيات متطرفة قد تصل إلى القتل واستخدام العنف في أجزاء من العالم، أو يتم استغلال هذه الخطابات الشعبوية من قبل جهات سياسية، أو منظمات حركية، لتحقيق أغراض سياسية تسعى إليها، ويسهل بها تجنيد بعض العقول الجمعية الفارغة، باسم الدين أو المذهب أو الغيب بشكل عام.
نحن بحاجة اليوم إلى خطابات إنسانية محكمة، فما حدث في شاطئ بوندي لا علاقة للإسلام والمسلمين به، كما أن الذي حدث لليهود في الشاطئ جريمة لا يمكن تبريرها، فالنفس الإنسانية واحدة، هذا ذاته ما يحدث من جرائم في فلسطين ضد شعب أعزل لا يعم اليهود، ولا يعني جواز ممارسة العنف ضد اليهود لمجرد أنهم ولدوا يهودا، فحق الحياة حق للجميع، ولباس الأديان لا ينزع أصل ذاتية الإنسان، فالعنف لا يعرف فكرًا ولا دينًا ولا مذهبًا، ولكن قد تستغل النصوص الدينية والتأريخية لتبرير هذا، فبقدر ما يعاد قراءة هذه النصوص بما يحفظ إنسانية الإنسان، الأمر ذاته علينا أن نقرأ الواقع بعقلانية بعيدا عن العموميات الحكمية المسبقة، أو الخطابات غير المتعقلة.
بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»