ترجمة: بدر بن خميس الظّفري -
في فرنسا، كان الخريف محمومًا. ففي البداية، أطاح برلمان غاضب بالحكومة، ثم وفي أجواء من الذعر، كلّف الرئيس إيمانويل ماكرون أحد تلامذته، سيباستيان لوكورنو، بتشكيل الحكومة، لكنه استقال بعد أقل من شهر.
سادت الفوضى، واليوم تبدو الأمور أكثر هدوءًا قليلًا؛ فقد عاد لوكورنو إلى المنصب الذي غادره على عجل، ونجح في تحقيق قدر من الاستقرار عبر تقديم تنازلات لخصومه، وقد يتمكن حتى من تمرير الموازنة.
لكن طريقه ما زال محفوفًا بالمخاطر؛ فمن دون أغلبية واضحة في الجمعية الوطنية، تبقى الحكومة عرضة لطرح الثقة، وهو ما قد يضطر ماكرون إلى تعيين رئيس وزراء جديد ـ سيكون السادس في ولايته الثانية ـ أو الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة. وفي الوقت نفسه، تتجه الأنظار إلى انتخابات الرئاسة عام 2027، وإلى الاحتمال المتزايد لفوز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف.
ما سيأتي لاحقًا بالغ الأهمية، غير أن فرنسا تحتاج إلى تغيير أعمق بكثير: فهي، أكثر من حاجتها إلى رئيس وزراء جديد أو رئيس جديد، تحتاج إلى جمهورية جديدة، بعد ما يقرب من قرنين ونصف القرن من واحدة من أقدم التجارب الديمقراطية في العالم ـ تجربة أطاحت مرارًا بالملوك والأباطرة والحكام العسكريين باسم الحرية والمساواة والأخوّة ـ آن الأوان لأن تعود البلاد إلى نقطة البداية. لقد حان وقت صيغة حكم جديدة في فرنسا.
كثير من التحديات التي تواجه البلاد مشتركة مع بقية أوروبا، اليمين المتطرف في صعود، والرفض الشعبي للهجرة يتزايد. الخدمات العامة وشبكات الأمان الاجتماعي تتعرض للضغط في اقتصاد عالمي شديد التنافسية، حيث يتباطأ النمو وتتراكم الديون. الثقة في الطبقة السياسية تتآكل، والإيمان بالديمقراطية يتراجع.
لكن ما يزيد من تفاقم كل هذه الأزمات هو بنية النظام السياسي الفرنسي نفسه، وهو نظام شديد المركزية يتركز فيه النفوذ في يد الرئاسة. إنها الجمهورية الخامسة. صُممت عام 1958 من أجل شارل ديغول في خضم حرب الجزائر، وقطعت مع النماذج البرلمانية السابقة بمنح الرئيس صلاحيات دستورية واسعة إلى حد مذهل تتمثل في حل الجمعية الوطنية، وتعيين رؤساء الوزراء وفق مشيئته، وطرح الاستفتاءات مباشرة على الناخبين، بل وحتى الحكم بمراسيم في حالات الطوارئ.
وبصورة أعم، تشجع الجمهورية الخامسة الرؤساء على النظر إلى أنفسهم باعتبارهم حجر الزاوية في النظام كله، ما يحولهم إلى شخصيات شبه ملكية تدور حولها الحياة السياسية بأكملها.
هذه الرئاسة المعززة بالقوة كانت دائمًا على خلاف مع التقاليد الجمهورية في فرنسا، لكنها اليوم تبدو أشد انفصالًا عن المزاج الوطني. ففي مرحلة ما بعد الحرب، كان الناخبون يمنحون الرؤساء أغلبيات ساحقة في الجمعية الوطنية، وإذا اختلفوا مع الرئيس، منحوا أغلبية صلبة للمعارضة.
أما خلال العشرين عامًا الماضية، فقد تراجع الدعم الشعبي للرؤساء. ومثل أسلافه القريبين، يقترب ماكرون من نهاية ولايته الأخيرة بمعدلات قبول متدنية للغاية. والنتيجة شخصية غير شعبية تمتلك سلطة استثنائية على تحديد الأجندة الوطنية.
إن جمهورية سادسة ـ عبر دستور جديد يصوغه المواطنون أو يقرّونه على الأقل، كما جرى في الدساتير السابقة ـ يمكن أن تقلّص صلاحيات الرئاسة جذريًا وتعيد فرنسا إلى نظام برلماني كامل. عندها ستغدو الرئاسة في الغالب منصبًا شرفيًا، بينما تنبع السلطة التنفيذية من البرلمان، ما سيدفع النواب إلى تبني سياسة الائتلافات أسوة بجيرانهم الأوروبيين. وستصبح التحالفات والتسويات، لا نزوات رأس الدولة، هي التي تشكل الحياة السياسية.
وبالطبع، لن يكون هناك مكان للمادة 49.3، الأداة المثيرة للجدل التي سمحت لحكومة سابقة بتمرير إصلاحات التقاعد غير الشعبية من دون تصويت كامل.
كما يمكن لبرلمان يتمتع بسلطات أوسع أن يصبح أكثر تمثيلًا للمواطنين.
ومن الخطوات الواضحة في هذا الاتجاه اعتماد التمثيل النسبي، على غرار الأنظمة المعمول بها في إسبانيا وألمانيا، حيث توزع المقاعد بحسب نسبة الأصوات.
وسيكون ذلك تحولًا كبيرًا عن نظام الجولتين الحالي الذي غالبًا ما يترك الناخبين وهم يشعرون بأنهم اختاروا «أقل الضررين».
ويمكن أيضًا انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ مباشرة، بدل اختيارهم أساسًا من ممثلي السلطات المحلية، بما يضخ حيوية ديمقراطية طال انتظارها في غرفة عليا تشتهر بمقاومتها للتغيير.
وقد تعيد جمهورية جديدة أيضًا فتح ملف اللامركزية الشائك؛ فميل فرنسا إلى الدولة القومية القوية يسبق ديغول بوقت طويل، لكن السخط الناجم عن تركز الثروة والسلطة في باريس يزداد حدّة.
ورغم أن الحكومات المتعاقبة منحت الأقاليم والبلديات صلاحيات أوسع، فإن واضعي دستور الجمهورية السادسة قد يذهبون أبعد من ذلك، وربما يطرحون حتى فكرة نظام اتحادي كامل. كان هذا الطرح يبدو يومًا ضربًا من الخيال، لكن فرنسا تتغير. فبحسب استطلاع أُجري في نوفمبر، يؤيد 64 في المائة من الفرنسيين نظامًا يسمح للأقاليم بوضع قوانينها الخاصة.
كما تُظهر الاستطلاعات تأييدًا متزايدًا لفكرة جمهورية جديدة. ويعكس هذا الاستعداد للتغيير تقليدًا مدنيًا صحيًا ينظر إلى الدساتير لا بوصفها نصوصًا مقدسة، بل وثائق إرشادية قابلة للتحديث. يتساءل كثيرون، وهم صادقون: لماذا تظل البلاد أسيرة نظام صُمم قبل نحو سبعين عامًا من أجل بطل حرب دُعي للدفاع عن مستعمرة؟
كان ذلك زمنًا لم تكن فيه النساء قد حصلن إلا حديثًا على حق التصويت، وكانت ذاكرة الاحتلال النازي ما تزال حاضرة، وعقوبة الإعدام لا تزال قائمة.
العقبة الأكبر أمام الإصلاح هي الطبقة السياسية نفسها. فالوسطيون أبدوا قليلًا من الرغبة في نقد نظام يخدمهم في عهد ماكرون. أما اليمين المتطرف فيتوق إلى ممارسة هذه الصلاحيات بنفسه، وحتى أحزاب اليسار، التي كانت تاريخيًا أشد المنتقدين للجمهورية الخامسة، لم تُبدِ حماسًا يُذكر لإصلاح دستوري شامل أو مسار جديد.
صحيح أن تحالف «الجبهة الشعبية الجديدة» دعا إلى جمهورية سادسة قبل انتخابات العام الماضي، لكن أحزابه سرعان ما تخلت عن القضية مع اقتراب السباق الرئاسي. ويبدو أن إغراء قصر الإليزيه طاغٍ على الجميع، حتى أولئك الذين يقسمون بأنهم يريدون تقليص نفوذه.
وفي لحظة ما، قد لا يبقى أمام المؤسسة السياسية خيار. ماذا لو انهارت الحكومة مجددًا؟ وماذا لو أسفرت انتخابات تشريعية جديدة عن جمعية وطنية منقسمة على النحو نفسه؟ وماذا لو ظل البرلمان مستقطبًا في ظل رئيس منتخب جديد يسعى إلى إساءة استخدام السلطة التنفيذية بطرق خطرة؟
كلما طال أمد الجمود السياسي، ارتفعت الأصوات المطالبة بجمهورية سادسة، إلى أن يأتي يوم لا يُنظر فيه إلى الفكرة بوصفها حلمًا طوباويًا، بل باعتبارها المخرج الوحيد من الأزمة.
كول ستانغلر صحفي مقيم في فرنسا، وهو مؤلف كتاب «المرآة الأمريكية».
الترجمة عن نيويورك تايمز