غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:
لم يكن رامز ترزي يحتاج إلى مقعد داخل كنيسة ليشعر بثقل اللحظة؛ كان يحملها في صدره .. يفتح ذاكرته فلا يجد أصوات أطفاله. وقف عند المدخل الحجري، يمرّر يده على الجدار كما لو كان يتأكد أن المكان ما زال قائمًا، وأنه لم يتحوّل إلى ذكرى أخرى. يقول بهدوء مشوب بكسرة: «تُعتبر هذه الأعياد شكلًا من أشكال الدعم والتضامن مع أفراد المجتمع. أهل غزة يحبون الحياة ويأملون في العيش بسلام»، ثم يصمت قليلًا، كأن الصمت صار لغته الثانية.
بلا أطفال
رامز شاب مسيحي نازح من مدينة غزة، لاجئ إلى الكنيسة بعدما صارت البيوت عناوين مؤقتة للموت. خلال أول أسبوعين من الحرب، فقد أطفاله الثلاثة: سهيل (14 عامًا)، وجولي (12 عامًا)، ومجد (11 عامًا)، حين حاولوا الاحتماء داخل كنيسة أخرى بغزة. يروي التفاصيل بلا انفعال ظاهر، لكنه يترك الكلمات تتعثّر: «لم يبق أطفال.. لقد أصبحوا كلهم ضحايا هذه الحرب». كان صوته الداخلي أعلى من التراتيل، يستعيد أسماءهم كلما علا جرس الكنيسة.
لم يأتِ رامز إلى قداس عيد الميلاد بحثًا عن طقسٍ روحي فقط، بل عن مساحة إنسانية تتيح له أن يضع حزنه بين أيدٍ أخرى. في غزة، حيث يسبق الدمار الكلمات، يصبح الحضور ذاته فعل مقاومة. يقول لـ«عُمان»: «مع حلول العام الجديد، نأمل أن يكون عامًا مليئًا بالمحبة والسلام، يعيش فيه جميع الناس بحرية وأمل في غد أفضل»، ثم كانت نظراته تلتقط وجوهًا تشبهه؛ آباء وأمهات فقدوا قريبًا، وأطفالًا يكبرون قبل أوانهم.تتشكّل مفارقة غزة: أن يكون الألم جماعيًا، فيخفّ قليلًا، وأن يكون الرجاء فرديًا، فيصمد أكثر.
طقس الحياة
يقام قداس عيد الميلاد في كنيسة العائلة بالبلدة القديمة من مدينة غزة، وسط هدنة يصفها أهلها بالكاذبة. الكنيسة التي اعتادت قبل الحرب أن تستقبل عيد الميلاد بزينة أوسع ووجوه أكثر بهجة، وجدت نفسها هذا العام تُعيد تعريف الفرح، لا باعتباره نقيض الألم، بل قرينًا له.
قبل الحرب، كانت الشجرة أكبر، والأضواء أوسع، والضحكات أطول. اليوم، تتقلّص المظاهر، وتكبر الدلالات. تُقال الكلمات، فتستقر في صدور أنهكها الانتظار. هنا، يُقام القداس كفعل حياة في مدينة تُحاصَر بالموت.
في الخارج، الدمار يحيط بالمكان، وفي الداخل، يحاول الناس ترتيب معنى للعيد. ليس احتفالًا كاملًا كما كان، لكنه ليس غائبًا. هو احتفال ناقص، تمامًا كحياة أهل غزة الآن. ومع ذلك، فإن النقص لا يلغي الجوهر أن يجتمع الناس، أن يذكروا أسماءهم، وأن يقولوا للعالم إن المدينة ما زالت صامدة.
الهدنة، التي يفترض أن تمنح فسحة أمان، بدت لكثيرين مجرّد توقف مؤقت للنار. ومع ذلك، اختار المسيحيون في غزة أن يقيموا طقسهم، لا إنكارًا للخطر، بل إصرارًا على أن العيد لا يُؤجَّل إلى زمن مثالي. في مدينة تُقاس أيامها بعدد الغارات، يصبح الزمن نفسه هشًّا، ويصير الاحتفال إعلانًا صغيرًا عن ثبات المعنى.
في كلمته للصحفيين، قال البطريرك بييرباتيستا : «كان من المهم أن نكون هنا وفقًا لتقاليدنا، أن نكون هنا من أجل عيد الميلاد لنحتفل سويًا ». لم تكن الجملة بروتوكولية؛ كانت تأكيدًا على معنى الحضور. وأضاف: «هذه هي زيارتي الرابعة بعد بداية الحرب، ورأيت فرقًا هذه المرة. رأيت الرغبة الجديدة في حياة جديدة. رأيت أن هناك جوًا مختلفًا تمامًا».
أقرّ بأن المرحلة الجديدة لا تُنهي الأزمات: «بالطبع، نحن في مرحلة جديدة، ولكن كل المشاكل لا تزال على الطاولة: المنازل، الإسكان، المدارس، المستشفيات. ظروف الحياة والفقر كارثية. لكن حان الوقت الآن للتطلع إلى الأمام وإعادة بناء كل ما تم تدميره». هنا، بدا الخطاب متوازنًا بين الاعتراف بالكارثة والدعوة إلى العمل.
وتوقف عند صمود الناس قائلًا: «أحتاج أن أعبر عن تقديري، إعجابي، للطريقة التي يعيش بها أهل غزة هذا الوضع. من جهة، رأينا كيف أن الأقوياء في العالم يريدون أن يقرروا عنهم. في نفس الوقت، رأينا أن صمود هؤلاء الناس هو ما سينتصر في النهاية. لذا، بالنسبة لي هو درس كبير». الدرس، كما وصفه، إنساني قبل أن يكون سياسيًا.
ثم عاد إلى معنى العيد نفسه: «حتى هنا في غزة، في أكثر الأوضاع كآبة في العالم ربما، من الممكن الاحتفال بعيد الميلاد. حيث يكون الأطفال سعداء، تكون الحياة، والمستقبل متينًا. ورأيت أيضًا أطفالًا في كل مكان هنا». الأطفال، بالنسبة له، معيار المستقبل.
وتابع برؤية أبعد: «لذا فإن التزامنا الآن هو كيف نبني من هذا الدمار معًا من أجل تحويل غزة ليس إلى المكان الأكثر كآبة في العالم، بل إلى مكان أكثر حيوية. أنا واثق لأنه في جميع أنحاء العالم، غزة في قلوب الناس. أينما ذهبت، يسأل الناس عن غزة. لذا، وإذا كانت إرادة الناس هنا، فحيث توجد الإرادة، يوجد الطريق.».
وختم بكلمات عزاء وعزم: «لدينا أيضًا، ليس فقط المسيحيون ولكن الجميع، الجميع في حداد على قريب ما. ولكننا نقول أيضًا إن ذكرى أولئك الذين فارقوا الحياة هنا في هذا الوضع تدفعنا للعمل أكثر وأكثر من أجل الحياة».
فرح ناقص
رغم كل شيء، حاولت الكنيسة أن تمنح الأطفال فسحة فرح.انتشرت الزينة الحمراء والذهبية، والأكاليل الخضراء، والشرائط حول الكنيسة، ونُصبت شجرة عيد ميلاد شاهقة في ركنها. كانت التفاصيل صغيرة، لكنها كافية لتقول إن العيد لم يُلغَ.
الفرح هنا ليس كاملًا، لكنه صادق. الأطفال يلتقطون الصور، والآباء يراقبون بحذر، كأنهم يخشون أن يوقظوا الخوف النائم. في غزة، يتعلم الناس أن يفرحوا بصوت منخفض.
الطفل جورج مسّك (11 عامًا) يصف المشهد بعينين لامعتين: «في هذا العام أعددنا الزينة، وكانت هناك أشياء جميلة في الكنيسة أيضًاوأضأنا الأنوار أما العام الماضي، فتم قصف الكنيسة وسقوط شهداء ووقوع إصابات كثيرة».
أما نعيم الصاوي (12 عامًا)، فيقول بصدق طفولي خلال حديثه لـ«عُمان»: «هذا الاحتفال جميل، ولكن الاحتفالات السابقة قبل الحرب كانت أجمل؛ لا يخفي خيبته، لكنه لا ينفي الجمال القليل المتاح.
بين صوتي جورج ونعيم، تتشكل صورة عيد الميلاد في غزة: فرح منقوص، وذاكرة مثقلة، وإصرار على الاستمرار. قداس يُقام وسط هدنة كاذبة، لكنه يعلن حقيقة واحدة أن الحياة، في غزة ما زالت تجد طريقها.