في حادثة ضرب الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من سبعين هدفًا لتنظيم الدولة (داعش) في سوريا، ما يثير التساؤلات؛ إذ تأتي هذه الحادثة لأول مرة بعد سقوط نظام بشّار الأسد وصعود أحمد الشرع إلى الحكم.

هذه الضربة التي تأتي الآن، وسط التوتر بين الولايات المتحدة وعدد من الدول منها فنزويلا، تعيد طرح سؤال حول محاولة إعادة تموضع الولايات المتحدة في النظام الدولي على اعتبار أنها القوة العظمى التي تسيطر على العالم؛ خاصة بعد وصول دونالد ترامب للحكم في فترته الثانية، والتصريحات المثيرة للجدل المستمرة، والتعامل مع العالم بمنطق القوة، لا بمنطق الدبلوماسية. إضافة إلى الدلالات الأخرى مثل تغيير مسمى وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب وغيرها.

لعل هذا يُمكن أن يكون مؤشرًا على بنية النظام الدولي الحالي، والذي قام بعد الحرب الباردة على عدة أطوار أعلنتها أميركا، منها نشر الدمقرطة حول العالم، ومنها محاربة الإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر، فما الذي يمثّله النظام الدولي الحالي؟ وكيف يُمكن النظر إلى هذه المشاريع الكبرى في اللحظة الراهنة؟

كان نشر الدمقرطة في العالم هو المؤشر الأبرز الذي اتخذته الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة، وقد خاضت حروبًا عديدة تحت هذا الشعار، ولأسباب مختلفة أيضًا، لكنه دائمًا ما كان حاضرًا في الخطاب الأمريكي. منها مثلا غزو العراق في 2003، ومحاربة الإرهاب، لا سيما تنظيم الدولة (داعش) في التحالف الذي تكوّن لمحاربة هذا التنظيم في العراق وسوريا وليبيا ومصر وغيرها من الدول.

في الوقت ذاته، يشهد النظام الدولي تناقضًا بنيويًّا، بين الخطاب القيمي المثالي المرتبط (1) بالديمقراطية، التي لم تتحقق؛ إذ التدخل الأمريكي في الدول كان أول تناقض بين المبادئ الديمقراطية والفعل السياسي الواقعي.. هذا التدخل لم يكن نتيجة استفتاءات شعبية في أغلب الأحيان، بل رغبة أمريكية سياسية محضة، و(2) حقوق الإنسان، التي في كثير من الأحيان تم انتهاكها بعد التدخلات الأمريكية، وسجن أبو غريب في العراق من الدلائل البارزة والمعاصرة على انتهاك حقوق الإنسان.

وبين الممارسات السياسية الواقعية ـ التي تقوم على مبدأ القوة ـ في الجانب الآخر، ويتمثل ذلك في الضربات سواء البرية أو الجوية (سوريا، اليمن، فلسطين...)، وفرض العقوبات (إيران مثالا)، ومحاولة إدارة الفوضى من خلال خلقها في العالم.. هذا التناقض يطرح أسئلة حول ما إذا كانت هذه الحوادث التي نشهدها هي فشل في التطبيق أم انهيار في فكرة الدمقرطة نفسها؟

إن النظام الدولي الحالي ليس غير متوازن فحسب، بل إن القواعد القيمية فيه تتآكل بشكل مستمر ومتسارع، دون أن تستبدل بأي تنظير سياسي أخلاقي/قيمي آخر، بل تبرز البراغماتية والواقعية السياسية بشكل أكبر، مع تجاهل مستمر للتعقيدات التفصيلية بشكل أكبر، مما يشكل خطرًا في فهم العالم بشكل أفضل، لأن هذا التجاهل المتعمد يؤدي إلى التفكير في العموميات أكثر من التفصيلات المعقدة، وبالتالي تجاهل الحقيقة أكثر، حتى تصبح الحقيقة، ليست منكرة فحسب، بل غير مهمة من الأساس.

فضلا عن ذلك، فإن الشرعية الدولية ومنطق السيادة التي قام عليها التنظير في الدولة الحديثة الويستفالية يصبح أكثر تراجعًا وأقل أهمية، في مقابل تصاعد منطق الضربات الوقائية والأمن القومي المرن، الذي يعتمد على القدرة على تنفيذ العمليات بشكل أسرع وخاطف (كما حدث في العمليات الجوية الأميركية ضد إيران في حرب الـ12 يوما مع إسرائيل مثلا) مع تجاوز منطق السيادة، مما يشكل فشلًا أوضح وأكثر عمقًا في فهم بنية الدولة الحديثة، وعدم قدرة النظريات التقليدية على تفسير هذه الحوادث.

يُمكن استدعاء مفهوم الباثولوجيا الدوركايهمية لفهم النظام الدولي الحالي، على اعتبار أن المرض -كما يصفه دوركايهم- باعتباره خللا في الوظائف، لا حادثًا فحسب.

وقد حاول برتران بديع في كتابه (زمن المذلولين، باثولوجيا العلاقات الدولية) الربط بين المفهومين، من خلال تتبع بعض نماذج الإذلال والدبلوماسيات العائدة إليه -في الفصل الثالث من الكتاب- وتمثلات الإذلال في النظام الدولي من خلال اللامساواة سواء في الماضي الكولونيالي أو الهيكيلية أو الوظيفية، وصولا إلى الحديث عن العنف المستمر من خلال النزاعات الجديدة والعنف الاجتماعي.

يُمكن النظر إلى النظام الدولي الحالي من خلال تتبع الأمراض التي يعاني منها، سواء على المستوى التحليلي الكلي (مثل تضخم القوة مقابل خفوت صوت القانون) أو على المستوى التحليلي الجزئي (مثل تعميق مشكلة اللامساواة والعنف المستمر وصعود الخطابات العنصرية التي يتم تأييدها بشكل مستمر)؛ وبالتالي دراسة النظام الدولي لا باعتباره كتلة واحدة أو صندوق مغلق، وإنما حالات مختلفة أكثر تعقيدًا وتفصيلية.

في هذه الحالة، يصبح خطاب التدخل من أجل الديمقراطية لا معنى له، لأن فشله أصبح أكثر تجليًّا ووضوحًا من قبل، إضافة إلى تنامي البراغماتية اللاأخلاقية وخلق الفوضى العالمية بشكل أكبر بدلاً من حلها، مما يعيدنا للأسئلة الأولى التي تصبح أكثر إلحاحًا حول ما الذي يُمكن أن تكشفه لنا هذه التدخلات والضربات الأمريكية، وهل هي إشارة لأمراض أعمق في النظام الدولي؟ وما الذي يُمكن فهمه من تفاصيل النظام الدولي الحالي مع الانفلات المعياري والأخلاقي الذي يعيشه؟.

جاسم بني عرابة من كتاب الرأي في جريدة «عمان»