في أواخر صيف عام 2022م رأيتُ فيما ترى النائمة أني في قاعة محكمة، أقف في مواجهة القاضي ومساعدَيه تماما؛ مُتّهمةً ولكني لستُ خلف القضبان كما جرت العادة في الأفلام والمسلسلات، أو كما تستحق جانية مثلي. عن يميني تجلس في الصف الأول أسرة الضحية، تنتظر النطق بالحكم وقد كسا الحزن وجوه أفرادها وانعكس على طريقة جلوسهم. نظرتُ إليهم بانكسار ملأني رغبةً في أن يكون الحُكم مُرضيا لهم أيضا؛ علّه يمسح شيئا من حزنهم الذي أحسه يثقل قلبي، ولكني بريئة! فأنا لم أتعمّد قتل أم زكي التي كانت قد توفيت فعلا قبل هذا الحلم بأشهر. أعترف أني قتلتها في الحلم ولكن من دون قصد؛ كما لو أنّي قتلتها لمجرد أننا كنّا معا في مكان واحد، أو كما لو أن الموت الطبيعي غير وارد.

ما لبث القاضي أن نطق الحكم ببراءتي. نطقه بوضوح وكأنّي أسمعه الآن: «براءة لعدم وجود النيّة». أحسست بالارتياح؛ لأن هذا هو الواقع فعلا، ثم إنني لا أملك سببا واحدا للقتل. غادرت القاعة سريعا وكأني على موعد في مكان آخر، ولم أتبين ما إذا كان ذوو الضحية قد اقتنعوا ببراءتي حقا أم أنهم سيستأنفون، أو ربما يتحينون فرصة للثأر.

بقي هذا الحلم يقلقني لأيام، ولم أجرؤ على سرده لأحد، رغم أنه قلّما شغلني حلم بهذه الطريقة. ولكن شعورا غريبا بالخجل ساورني كلّما تذكرت زكي الحجري. رغبت في الاتصال به وإخباره لعلّه يغفر لي، فنضحك على ما تفعله الأحلام بنا، ثم نترحّم على أمِّه فيغادرني القلق، وأستعيد قناعتي بأن الأحلام لا تستحق كل هذا العناء، ولكني بدون قصد وجدتني أقص رؤياي على شخص قريب، فقال بعد أن استمع للقصة: ألم تقدمي لجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب؟ شعرت في سؤاله استخفافا بحلمي، وبأنه في وادٍ وهمّي في وادٍ آخر، وتلك طريقته عادة في تغيير المواضيع التي يجدها غير ذات أهمية على أية حال. ولكني تجاوزت هذا الشعور وأجبته بخيبة: «بلى، قدمت». فرد على الفور: «ستفوزين!»

ما شأن هذا الحلم بفوزي أو خسارتي يا رجل؟ فيمَ أحدثك أنا وبمَ تجيبني أنت؟ قال: «ركزي جيدا؛ المحكمة تدل على لجنة تحكيم، واسم زكي يدل على تزكيتك من لجنة ما، أما الحكم ببراءتك فهو قرار فوزك بها إن شاء الله». اندهشت! أعجبتني لعبة المطابقة التي لعبها للتو بتفكيك الرموز وإعادة كل جزء منها إلى شبيهٍ ممكن، فتحوّل الكابوس إلى إشراقة فرح! ليس لأن الفوز احتمال ممكن بالضرورة، ولكن لأن ما يقلقنا أحيانا يمكنه أن يكون مبعث تفاؤلنا أيضا. خبّأت النيّة في خاطري بأن أخبر زكي إذا تحقق التفسير العجيب.

وهذا ما حدث في ظهر يوم العاشر من نوفمبر 2022م، أي في اليوم التالي لإعلان أسماء الفائزين، حيث التقيتُه في مركز مجاز الثقافي بدون تخطيط مسبق. كنتُ هناك لتوقيع اتفاقية بين مجاز وبيت الزبير، وكان زكي قد افتتح للتو جناحا صغيرا لمكتبته في مركز مجاز الثقافي الواقع في مدينة السلطان قابوس، ليقترب من القراء أكثر بإيجاد نافذة له في قلب مسقط، إلى جانب مقرِّها الرئيس في ولاية العامرات. ابتسم بوداعة بعدما سمع قصة الحلم وتفسيره، وقال: «ولكن لا تكتبي هذا!»

فلماذا أكتب هذا إذن وأخالف رغبته؟ كنت أعرف أنّي سأكتب عن زكي يوما ما ضمن سلسلة شخصيات أَثْرَت حياتي، ولا يمكن لحديث عن زكي الحجري أن يكتمل بدون التعريج على هذا الحلم وتفسيره (حقيقة أو مصادفة)، حتى أصبح مرتبطا بأحد أهم أحداث حياتي. وأكتبه لأني أمتلك قصتي الخاصة عن زكي الحجري المختلفة عن القصة التي يمتلكها الجميع. الشابّ الذي حوّل شغفه بالكتب إلى أول مكتبة متخصصة في عُمان، وأطلق عليها اسما مميزا؛ بل رقما مميزا «234» للدلالة على اليوم العالمي للكتاب الذي يوافق 23 من شهر أبريل من كل عام، ويبيع فيها الكتاب المترجَم فقط.

عرفتُ زكي مصادفة في معرض الكتاب في عام 2016م، رأيته يتجوّل بين دور النشر ويتفاوض مع هذا وذاك، ويحرص على تتبع القوائم ليبحث عن شيء بعينه، ويجرُّ خلفه عربته وقد ملأها بكميات من الكتب تلفت الانتباه. وأخبرني وقتها أنه ينوي افتتاح مكتبة يخصصها للكتاب المترجم فقط. شدّتني الفكرة وإن لم أتشجع لها تماما! لماذا الكتاب المترجم دون سواه ونحن بحاجة لكل أنواع الكتب؟ ولكن بدا أنه مُصرّ، ورؤيته التي يراها أمامه بوضوح لم تعد قابلة للتغيير. وفي كل الأحوال أهلا بمكتبة جديدة توفر الكتاب في أي وقت نريد خارج مواسم معرض الكتاب.

وفي العاشر من أكتوبر من العام نفسه أعلن زكي عن افتتاح مكتبته 234، فتنفستْ «العامرات» برئة العالم، وقد جلب لها زكي الكتاب المترجم من كل اللغات. احتفيتُ بها كإنجاز شخصي، وأصبح لديّ سببان لزيارة العامرات: الصديقة الروائية هدى حمد التي تسكن هناك، ومكتبة زكي الحجري. وهكذا أصبح صعود عقبة العامرات مشقة مستحقة؛ أيمم وجهي شطر هذه المدينة بعد خروجي من العمل بين حين وآخر، أو كلما أعلن زكي عن وصول عناوين جديدة، كما أصبح يقرأ مزاجي، ويخبئ لي النسخ النادرة والمحدودة من بعض العناوين. يتحدث زكي عن كل كتاب بشغفٍ مدهش، فتتأكد من أنه لا يكاد يبيع كتابا قبل أن يقرأه، فتصدّقه إذ يقول هذا كتاب ممتع، وذاك كتاب جميل، أو حتى إذا تكلم عن كتاب بحماس أقل. رأيت مكتبة زكي وهي تكبر زيارة بعد أخرى، وتكبر معها كمية ما أحمله منها في صندوق سيارتي التي قلّما غادرت مكتبته فارغة.

لقد تسببت مكتبة زكي لي بعدة إشكاليات، أولها أن الكتب التي تمتلئ بها السيارة لا تجد مكانا في البيت أضعها فيه، فأصبحت أبقيها مكانها في الصندوق لفترات طويلة، وأتورط كلما أردت إيداع السيارة في وكالة الصيانة، إذ عليّ أن أفرغها تماما حيث لا أجد مكانا مناسبا ولو مؤقتا يحفظها من عبث العابثين، وثانيتها ألاّ أحد بوسعه أن يشاركني ركوب السيارة قبل أن يكون ملزما بتدبّر أمر أكوام الكتب المبعثرة داخلها في كل مكان، أما ثالثتها، فهي الإفلاسات المتكررة أمام رفوف مكتبته.

لقد كان لمكتبة زكي مواعيد معلومة ما بين العصر وآخر الليل، وتغلق في الصباح لارتباطه بوظيفة رسمية. يعتني بها اعتناء عاشق لا تاجر؛ يزور المعارض هنا وهناك ليزوّد مكتبته بالجديد في كل مرة، ولا يعنيه أن تزيد إيراداتها أو يتوسع فيُعيّن لها من يفتحها في الصباح. أراد دائما أن يكون في قلبها وقت يشاء، ويُغلقها متى ما كانت ظروفه غير سانحة، فحفظ مريدوه أوقاته بمعرفة أوقاتها، وعلموا بأحواله متى ما غاب عنها في الأوقات عينها.

ورغم أن زكي الحجري شابٌ لا يزال في سنّ عطائه الجميل، إلا أن من يعرفونه تواطؤوا على أن يطلقوا عليه لقب «عمو زكي»، وأحسب أنه لقب لا علاقة له بعمره، ولكن بالحنو الذي يمنحه للقراء، فهو يقرأُهم كما يقرأ الكتب، ويعرف أمزجتهم وتفضيلاتهم، ويتواصل مع هذا وذاك لأن عنوانا جديدا دخل مكتبته يقع ضمن دائرة اهتمامهم. وما أحسبه أن فكرة (مكتبة) جاءت امتدادا لفكرة أخرى أكثر أصالة اسمها زكي الحجري، فالمكتبة تشبهه، وقد تحوّلت من مكتبة شخصية إلى مكتبة مفتوحة (وتجارية على استحياء)، وبقي وفاؤه الأهم للقارئ الذي يودّ مشاركة الكتب معه.

وإذا كانت مكتبة 234 أغلقت مقرّها الآن في العامرات، وبقيت نافذتها في مركز مجاز الثقافي، إلا أن الفكرة الأساس ما تزال قائمة، فيكفي أن أرسل لزكي صورة غلاف لكتاب أريده دون أن أضيف شيئا، فيفهم بغيتي، ويحدث أن أتفاجأ بالكتاب ينتظرني عند موظف الاستقبال في عملي. وإذا لم يكن متوفرا فإنه لا يتردد في البحث عنه في المكتبات والمعارض الخارجية، حتى إذا طالت المدة وأوشكت على نسيانه، يبعث لي برسالة سعيدة بأن الكتاب قد وصل أخيرا. في زياراته لبيت الزبير بين فينة وأخرى، لا يعدم كتابا يلتقطه من سيارته، يسلّمه لي كأول وآخر ما تمتد به يداه للآخرين.

لأجل هذا كلّه، ارتبطت صورة زكي الحجري في ذهني بالبشارات: بشارة الحلم، وبشارة الكتب الجديدة دائما في مكتبته التي ستبقى حية في الذاكرة، وبشارة الهدايا ذات الختم الأزرق الذي تشع في قلبه الأرقام الثلاثة 234. لم تكن مكتبة 234 الوحيدة التي أغلقت أبوابها مؤخرا، ولكنها من المرات القليلة التي تغلق فيها مكتبة ولا أشعر بالحزن، لأن الفكرة الأصلية باقية وتمارس دورها في محبة الكتب وقرائها، ولا أستبعد استيقاظها مجددا كطائر فينيق يوقدها من روحه التي لا تنطفئ.