غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:
في صباح باكر من أحد أيام الشتاء الباردة، اقتحمت جرافات الاحتلال الإسرائيلي بلدة رافات شمال القدس المحتلة، لتنهال صرخات العائلات الفلسطينية على وقع أصوات الهدم. كان منزل المواطن محمود عطا الله، المكوّن من طابقين ويضم أسرته الكبيرة، هدفاً مباشراً للجرافات. أصوات الأطفال المذعورين ودموع الأمهات اختلطت بدخان الغبار، بينما كان محمود يحاول إنقاذ بعض محتوياته قبل أن تتحطم على الأرض.
أنقاض المستقبل
في ساحة البيت، وقف محمود متأملاً الخراب أمامه، وعيناه تتفحّصان الحطام الذي لم يترك أي زاوية سليمة، قائلاً خلال حديثه لـ«عُمان»: «لقد فقدنا كل شيء في دقائق، لا شيء يذكر سوى جدران محطمّة وأحلام محطمة». صوته يختلط بصوت الريح الباردة، وكأن الطبيعة نفسها تشارك العائلة ألمها.
تتابع الآليات الهدم دون أي رحمة، ووسط الصراخ والفوضى، حاول الجيران تقديم يد المساعدة، لكن العدد الكبير من الجنود والجرافات حال دون أي تدخل. محمود الذي قضى سنوات في بناء منزله، وجد نفسه اليوم بلا مأوى، متسائلاً عن مصير أطفاله ومستقبل أسرته في بلدته التي باتت مهددة بالاستيطان.
وبينما كان الغبار يعلو السماء، حاول بعض المواطنين التقاط صور للحطام والتوثيق، خشية أن يضيع أي دليل على الانتهاكات اليومية التي تمارس بحقهم.
يقول محمود: «الاحتلال لا يترك لنا أي فرصة، كل يوم نجد أنفسنا نركض خلف قرارات الهدم، بينما هم يخططون لمستقبلنا على أنقاض منازلنا».
المنطقة التي شُيدت عليها منازل البلدة كانت جزءًا من مطار القدس الدولي القديم، ومؤخراً أعلن الاحتلال عن خطط لبناء مستوطنة تضم آلاف الوحدات السكنية، ما يرفع مخاطر فقدان السكان الفلسطينيين لحقوقهم على أرضهم تدريجياً.
سيناريو مكرر
في دير قديس غرب رام الله، كررت قوات الاحتلال سيناريو الهدم، حيث اقتحمت القرية مصحوبة بجرافة عسكرية كبيرة، وشرعت في هدم منزل المواطن نادر الخواجا. المنزل مكوّن من طابقين ويؤوي أكثر من عشرة أفراد، وكان تاريخ بنائه يعود إلى خمسة عشر عاماً.
أفاد الخواجا لمراسل لـ«عُمان» أن الهدم تم فجأة ودون سابق إنذار، قائلاً: «وصلوا صباحاً مع الجرافة وأمرونا بالمغادرة فوراً، لم يكن هناك وقت لإنقاذ أي شيء، أطفالي لا يعرفون أين سنذهب بعد أن أصبحنا بلا منزل». وأضاف: «كل جدار هُدم يعني جزءاً من حياتنا، كل قطعة أثاث خسرت معنا ذكرياتنا، ويبدو أن الاحتلال يريد أن يمحو وجودنا من هذه الأرض».
نادر الخواجا، الذي عاش مع أسرته سنوات طويلة في منزلهم بدير قديس، تحدث عن الصدمة العميقة التي أصابتهم بعد الهدم: «لقد عملنا بجد لبناء هذا البيت، كل زاوية فيه تحمل ذكرى، وكل غرفة شهدت فرحاً وحزناً. اليوم أصبح كل شيء تحت أنقاض، ونحن بلا مأوى في مواجهة الشتاء».
وأضاف نادر: «الاحتلال يستخدم سياسة الهدم والترهيب لتفريغ القرى، ونحن نحاول الصمود رغم الصعوبات، لكن الطريق أصبح صعباً للغاية. كل يوم نسمع عن منازل جديدة مهددة بالهدم، ونحن نحاول تسجيل كل انتهاك من أجل العالم».
وأشار إلى أن الدعم الدولي والإعلامي لا يصل إلى حدّ حماية الأهالي، قائلاً: «نحن بحاجة لحقوقنا على الأرض قبل أي شيء آخر، لن يستطيع أحد أن يوقفنا إلا بفرض حقيقي للقانون الدولي».
وأكد نادر أن هذه السياسات لن تثنيه عن البقاء في قريته، قائلاً: «قد يهدمون منزلنا، لكنهم لن يستطيعوا هدم إرادتنا أو محو هويتنا الفلسطينية».
شرعنة الاستيطان
في المقابل، صدّق المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (الكابينت) مؤخراً على إقامة وشرعنة 19 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية، في خطوة تصعيدية تهدف إلى توسيع السيطرة على الأراضي الفلسطينية. بعضها مستوطنات قائمة سيتم تنظيمها بشكل رسمي، وبعضها جديد كلياً، تشمل مناطق كانت خاضعة سابقاً لخطط التطوير المدني أو زراعية.
وتأتي هذه الخطوة في إطار خطة أوسع لحكومة الاحتلال الحالية، التي خصصت مليارات الدولارات لبناء مستوطنات جديدة وتحسين البنية التحتية للمستوطنات القائمة، بهدف تهويد الأراضي تدريجياً وفرض واقع جديد على السكان الفلسطينيين.
ومن جهتها، أشارت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان إلى أن قرار الكابينت الإسرائيلي بشأن المستوطنات الجديدة «يدق ناقوس الخطر ويكشف عن النوايا الحقيقية لحكومة نتنياهو في تكريس التهويد الكامل للأرض الفلسطينية».
وأوضح الهيئة: «هذه السياسة جزء من خطة ممنهجة لتحويل البؤر الاستيطانية إلى مستوطنات رسمية، وهو ما يقوّض إمكانية بقاء الفلسطينيين في أراضيهم ويهدد أي أفق لحل الدولتين».
وعلق واصف عريقات، الخبير العسكري، على القرار قائلاً: «الائتلاف الحاكم في إسرائيل يتبع خطة منهجية لضم الأراضي وتهويد الضفة الغربية بشكل كامل. الميزانيات الضخمة المخصصة للاستيطان تظهر بوضوح نواياهم في السيطرة على مزيد من الأراضي».
وأضاف خلال حديثه لـ«عُمان»: «المستقبل الذي يحاول الاحتلال فرضه يشمل تحويل هذه المستوطنات إلى مدن مكتملة، مما يقوض أي إمكانية للوجود الفلسطيني ويعيد تشكيل الخارطة الديمغرافية لصالح المستوطنين».
وأكد عريقات أن الدعم الأمني والاستخباراتي للمستوطنين يجعل الحياة اليومية للفلسطينيين صعبة للغاية، قائلاً: «هذا كله جزء من سياسة تهويد منهجية تهدف إلى طرد الفلسطينيين واستبدالهم بشكل كامل».
فيما رأى مصطفى البرغوني، أمين عام المبادرة الفلسطينية، أن القرار يمثل استفزازاً خطيراً ويؤكد تصميم حكومة الاحتلال على التوسع الاستيطاني.
وقال خلال حديثه لـ«عُمان»: «الهدف واضح، وهو ضم الأراضي وتهويد كامل الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية».
وأضاف: «الشعب الفلسطيني سيستمر في التمسك بحقوقه وحقه في دولة كاملة، حتى لو حاول الاحتلال تدمير إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة».
وأكد البرغوني ضرورة أن تتحرك الدول التي تعترف بفلسطين لفرض عقوبات على إسرائيل لوقف هذا التوسع الاستيطاني، قائلاً: «إلا فإنهم يساهمون بشكل مباشر في تقويض مستقبل الدولة الفلسطينية».
تجريف الزيتون
في السياق، شرعت قوات الاحتلال بتجريف 35 دونماً مزروعة بأشجار الزيتون في قرية بدرس غرب رام الله، بحجة إقامة منطقة أمنية عازلة قرب الجدار الفاصل. تأتي هذه العملية ضمن سلسلة طويلة من المصادرات التي تهدف إلى السيطرة على الأراضي الحدودية وتهجير سكانها.
عبدالناصر مرار، رئيس مجلس قروي بدرس، أوضح حجم الأضرار منذ النكبة: «تم مصادرة حوالي 70% من أراضي القرية منذ عام 1948، بالإضافة لما صادروه بعد بناء الجدار في 2003، حوالي 1500 دونم».
وأضاف خلال حديثه لـ«عُمان»: «العملية الحالية تشمل اقتلاع أشجار الزيتون وهدم منازل، وهي جزء من حملة ممنهجة لتشريد الأهالي وتهجيرهم من قراهم».
وأكد مرار أن الهدف من هذه السياسات هو السيطرة الكاملة على المنطقة الحدودية وفرض واقع جديد على السكان الفلسطينيين، قائلاً: «إنهم يحاولون تحويل الأراضي الزراعية والمنازل إلى مناطق خالية لصالح المستوطنين».
في مرمى التهجير
ويُعد التوسع الاستيطاني المستمر جزءاً من سياسة تهدف إلى إنهاء إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة، من خلال ضم الأراضي تدريجياً وإحباط مبدأ حل الدولتين، المنصوص عليه في قرارات سابقة للأمم المتحدة.
وأكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن هذا التوسع الاستيطاني يشهد «أعلى مستويات منذ بدء الرصد الأممي، بما في ذلك في القدس الشرقية، ما يهدد الاستقرار ويزيد من معاناة السكان المدنيين».
وأضاف غوتيريش: «يجب على المجتمع الدولي التحرك بشكل فوري للحد من التوسع الاستيطاني، وحماية حقوق الفلسطينيين على أراضيهم، بما يضمن مستقبل الدولة الفلسطينية المستقلة».