روبرت إي كيلي / بول بوست
ترجمة: نهى مصطفى -
كان من المتوقع أن يُحدث صعود دونالد ترامب تحوّلًا جذريًا في النظام الدولي الليبرالي. خلال ولايته الأولى، سخر ترامب علنًا من حلفائه الأوروبيين القدماء، وانسحب من معاهدات دولية مثل اتفاقية باريس للمناخ، ووجه انتقادات لاذعة للدور الأمريكي في دعم الحلفاء عسكريًا وتجاريًا.
ومع ذلك، لم تُفضِ سياسة ترامب الأحادية العدوانية إلى انهيار التحالفات الأمريكية. فرغم اهتزاز الحلفاء واستيائهم في كثير من الأحيان من تنمر واشنطن، إلا أنهم لم يبتعدوا عن القوة العظمى المهيمنة في العالم. ولم تشهد مبادئ العلاقات الخارجية، والإنفاق الدفاعي، والتحالفات الجيوسياسية لشركاء الولايات المتحدة الأساسيين، مثل فرنسا وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، أي تغيير يذكر خلال فترة ولاية ترامب الأولى. بل على العكس، تكيفت هذه الدول مع ترامب لأنها رأت أن إضعاف العلاقات مع الولايات المتحدة سيكون أكثر خطورة على مصالحها الاقتصادية والأمنية من محاولة التصدي لتجاوزاته.
وضعت ولاية ترامب الثانية هذه الديناميكية أمام اختبار أشدّ وطأة. فازدراء الرئيس لحلفاء الولايات المتحدة وشركائها بات هذه المرة أشدّ وطأة، على سبيل المثال لا الحصر: تحدث عن ضمّ كندا وجرينلاند، وقصف المكسيك، واستعادة قناة بنما، والتخلي عن أوكرانيا وتايوان.
ويزعم ترامب أن الحلفاء يستغلون الولايات المتحدة، ويطالب باستثمارات ضخمة غامضة في الولايات المتحدة تبدو أشبه بالرشاوى. فعلى سبيل المثال، يريد ضمانة استثمارية هائلة بقيمة 600 مليار دولار من الاتحاد الأوروبي، يستخدمها حسب تقديره. ويبدو أنه يميل إلى فكرة أن التحالفات ليست ركائز لشبكة منفعة متبادلة، بل عناصر من شبكة ابتزاز، وأن الوقت قد حان لتجني الولايات المتحدة ثمار ذلك.
كان الحلفاء يأملون أن تعيد ولاية بايدن عام 2020 السياسة الخارجية الليبرالية التقليدية، لكن إعادة انتخاب ترامب أظهرت أن النزعة العدائية والمقايضة الصريحة للالتزامات الأمريكية لم تكن استثناءً، بل قد تصبح جزءًا أساسيًا من السياسة الأمريكية المستقبلية، مع استمرار تأثير الجمهوريين الموالين لترامب على مصداقية الولايات المتحدة كحليف حتى في حال عودة الديمقراطيين إلى السلطة.
حتى الآن، لم ينشق حلفاء الولايات المتحدة خلال ولاية ترامب الثانية. ففي أكتوبر، زار ترامب اليابان وكوريا الجنوبية، وأشار قادة البلدين إلى رغبتهم في الحفاظ على علاقات طيبة مع الرئيس. يبدو أن الحلفاء ما زالوا على ما يرام، لكنهم أكثر قلقًا من ذي قبل. فبخلاف ما كان عليه الوضع قبل ثماني سنوات، لم يعد بإمكان الدول تجاهل تداعيات احتمال عدم دعم الولايات المتحدة لها في الأزمات. بل من المرجح أن يبدأ حلفاء الولايات المتحدة بالابتعاد تدريجيًا خلال العقد المقبل. قد يظلون يأملون في الدعم الأمريكي، لكنهم بدأوا أيضًا في التحوط ضد احتمال غياب الولايات المتحدة عند نشوب المشاكل، وذلك من خلال بناء تحالفات بديلة، والنظر في امتلاك أسلحة نووية، بل وحتى التوسط في اتفاقيات سلام منفصلة مع الخصوم الإقليميين بدلًا من مواجهتهم.
وبدون القدرة على التنبؤ بكيفية استجابة ترامب لنداءات المساعدة في حرب كبرى أو أزمة نووية مع الصين أو روسيا أو كوريا الشمالية، ليس أمام حلفاء الولايات المتحدة خيار سوى تغيير استراتيجياتهم طويلة الأجل لتقليل اعتمادهم على واشنطن.
في السنة الأولى من ولاية ترامب الثانية، ظل حلفاء الولايات المتحدة مرتبطين بها ارتباطًا وثيقًا. وكما كان الحال في ولايته الأولى، يبدو أن العديد من قادة الحلفاء يعتقدون أنه يمكن إجبار ترامب على الالتزام بتعهدات واتفاقيات ملزمة تُبقي الولايات المتحدة منخرطة في دعم احتياجاتهم الأمنية. وتُظهر الجهود الأوروبية للتواصل مع واشنطن نيابةً عن أوكرانيا في حربها مع روسيا مدى اعتماد الحلفاء على الولايات المتحدة. لا يبدو أن ترامب يرغب في مساعدة أوكرانيا، وقد أعرب عن إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومع ذلك، لا تسرع العديد من الدول الأوروبية في زيادة إنفاقها على الصناعات الدفاعية إلى مستوى يمكنها من تلبية احتياجات أوكرانيا الحربية بشكل مستقل عن الدعم المالي والعسكري الأمريكي. كما أنها لا تجد بدائل محلية للدعم اللوجستي والاستخباراتي الأمريكي. بعد مرور ثلاث سنوات ونصف على الصراع، لا يزال القادة الأوروبيون يأتون إلى البيت الأبيض لمجاملة ترامب بدلًا من تقليل اعتمادهم على الولايات المتحدة.
سعى حلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا، بدورهم، إلى التقرب من ترامب بدلاً من إبعاده. وقد استجابت كل من اليابان وكوريا الجنوبية لمطالب ترامب الاستثمارية. فعلى سبيل المثال، وافقت طوكيو، كجزء من الاتفاقية التجارية التي أبرمتها مع واشنطن في يوليو، على استثمار 500 مليار دولار في الولايات المتحدة، مع أن مدى تحقيق اليابان لهذا الهدف والتفاصيل الدقيقة لمن يسيطر على هذه الأموال لا تزال محل جدل. وعلى الرغم من قربهما من الصين وكوريا الشمالية وروسيا، لم ترفع أي من اليابان أو كوريا الجنوبية إنفاقها الدفاعي بما يكفي لتحرير نفسها من الاعتماد على الولايات المتحدة. ولا تزال القوات العسكرية الأمريكية المتمركزة في اليابان وكوريا الجنوبية متداخلة بشكل وثيق مع جيوش البلدين المضيفين، وتستمر التدريبات المشتركة. في الواقع، تضغط الولايات المتحدة على كلا البلدين للسماح باستخدام الأصول العسكرية الأمريكية المتمركزة على أراضيهما في عمليات هجومية لمواجهة الصين، وليس فقط لحماية البلدين المضيفين. وإدراكًا منهم أنهم لا يريدون مواجهة التهديدات المحيطة بهم بمفردهم، يواصل حلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا تلبية مطالب ترامب حتى مع ازدياد حدة خطابه وتصاعد عدوانيته.
أحد أسباب تحالف العديد من الدول في أوروبا وآسيا مع الولايات المتحدة هو بُعدها الجغرافي الذي يجعلها أقل احتمالاً لأن تُشكل تهديدًا عسكريًا مباشرًا. وبالتالي، حتى وإن لم تكن حليفًا يُعتمد عليه، فإن الفوائد الاستراتيجية للتعاون مع الولايات المتحدة مغرية بما يكفي لحلفاء الولايات المتحدة ليأملوا في الاستمرار في استرضاء ترامب. لكن الأمل ليس استراتيجية. ولهذا السبب، فإن المخاوف بشأن ترامب والمسار المحتمل للسياسة الخارجية الأمريكية ستدفع حلفاء الولايات المتحدة في نهاية المطاف، وإن كان ذلك على مضض، إلى اتخاذ موقف حذر.
على الرغم من اعتمادهم المستمر على الولايات المتحدة على المدى القريب، سيسعى هؤلاء الحلفاء إلى حماية أنفسهم من أي تصرفات أمريكية غير مسؤولة في المستقبل. ويشمل ذلك زيادة الإنفاق المحلي لتعزيز اكتفاءهم الذاتي في مجالي الدفاع والبنية التحتية، والسعي إلى توسيع نطاق شركائهم خشية أن تمتنع الولايات المتحدة عن تقديم المساعدة في حال نشوب نزاع.
من بعض النواحي، يسرع ترامب هذا التحول. فقد طالب الرئيس الأمريكي باستمرار الحلفاء بزيادة إنفاقهم على دفاعهم. فعلى سبيل المثال، تعد الحاجة إلى تقاسم الأعباء محورًا أساسيًا في استراتيجية الأمن القومي الجديدة لإدارة ترامب. ورغم أن الولايات المتحدة تدّعي أنها لا تزال ترغب وتتوقع شبكة قوية من الحلفاء، لا سيما في أوروبا وآسيا، فإن الاستراتيجية توضح أن دور واشنطن يجب أن يكون «ناقلًا وداعمًا» لأمن الدول الأخرى، لا مُزوّدًا رئيسيًا له. ولكن من خلال اشتراط زيادة الإنفاق الدفاعي كشرط أساسي لعلاقات جيدة مع واشنطن، تُقلّل إدارة ترامب أيضًا من حاجة حلفائها إلى الحماية الأمريكية.
بدأت بعض التغييرات بالفعل. شرعت الحكومة اليابانية في توسيع قواتها الصاروخية، ويناقش صناع القرار في كوريا الجنوبية بناء حاملة طائرات أو السعي لامتلاك أسلحة نووية، وكل ذلك من شأنه أن يساعد هذه الدول على بسط نفوذها بشكل مستقل. وتعكس هذه التحركات التوسع البحري الصيني والتهديدات النووية لكوريا الشمالية، فضلاً عن عدم موثوقية الولايات المتحدة. أما في أوروبا، فتتجه ميزانيات الدفاع نحو مستوى غير مسبوق يبلغ خمسة بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي؛ ومن المرجح أن يؤدي هذا المستوى من الإنفاق إلى توسع كبير في القوة العسكرية في اقتصادات قارية كبرى مثل فرنسا وألمانيا وبولندا، مما سيمكنها من العمل بشكل أكثر استقلالية كمزودين للأمن في القارة. لكن من غير الواضح إلى متى ستستمر هذه الدول في الحفاظ على مستويات الإنفاق هذه، ولهذا السبب تأمل أوروبا في عدم فقدان المظلة الأمنية الأمريكية، ولا تزال تسعى للتواصل مع واشنطن للحصول على الدعم.
يلجأ حلفاء الولايات المتحدة إلى التحوط من خلال تطوير قدراتهم اللوجستية وأنظمة C4ISR المستقلة عن البنية الأمريكية، مع التركيز على الاعتماد على المنتجات الأوروبية وتقليل الاعتماد على واشنطن، بما في ذلك احتمال تطوير أسلحة نووية خاصة لمواجهة المخاطر المرتبطة بالتحكم الأمريكي في التكنولوجيا والدعم العسكري.
إذا شعر الحلفاء بأن الضمانات الأمنية الأمريكية غير موثوقة، فقد يضطرون في نهاية المطاف إلى بذل المزيد من الجهود والسعي إلى حلول وسط مع خصوم الولايات المتحدة. ومن المرجح أن يتوصل شركاء صغار ومعرضون للخطر، مثل تايوان وكوريا الجنوبية، إلى اتفاق بشأن النزاعات الإقليمية أو الدفاعات الصاروخية أو الحدود البحرية مع الصين إذا انسحبت واشنطن من شرق آسيا. وإذا تخلى ترامب نهائيًا عن أوكرانيا، فقد يضطر قادة كييف إلى قبول الخسائر الإقليمية والسعي إلى السلام.
سيكون التحوط صعبًا ومكلفًا. والسبب الأبرز الذي يدفع حلفاء الولايات المتحدة إلى الاستمرار في استرضاء ترامب هو الترابط الوثيق بين جيوشهم وجيوش الولايات المتحدة. وسيتطلب الأمر وقتًا طويلًا وموارد هائلة لفك هذا الترابط. ويستفيد حلفاء الولايات المتحدة حاليًا من العديد من أنظمة الدعم اللوجستي وجمع المعلومات الاستخباراتية، كالأقمار الصناعية، بتكلفة منخفضة من الولايات المتحدة، والتي كان سيتعين عليهم دفع ثمنها بأنفسهم لولا ذلك. واعتادت شعوب العالم منذ زمن طويل على الحماية الأمنية الأمريكية. يعني السعي إلى مزيد من الاستقلال ضرائب أعلى، وتخفيضات في الإنفاق الاجتماعي، وربما التجنيد الإجباري أو امتلاك أسلحة نووية - وكلها أمور من المرجح أن تكون مزعجة ومقلقة للمواطنين، الذين قد يصوتون ضد السياسيين الذين يسلكون مسار التحوط.
لكن لجوء الحلفاء إلى بدائل ليس بالضرورة خبرًا سيئًا لواشنطن. فإذا ما أصبح حلفاء الولايات المتحدة أكثر استقلالية في تمويل أمنهم، فإن الولايات المتحدة، التي طالما اشتكت من التهرب من المسؤولية، ستحقق ما طالما سعت إليه: حلفاء أكثر قدرة على دعم أنفسهم. ومع ازدياد استقلالية الحلفاء، يُحتمل أن يُدرك صناع القرار في واشنطن، بمن فيهم أصحاب مبدأ «أمريكا أولاً»، كيف تفيد شبكة التحالفات القوية الولايات المتحدة، إذ تتيح لها نقاط وصول لتنفيذ عمليات عسكرية واستخباراتية حول العالم دون الحاجة إلى تحمل التكاليف كاملةً.
في عالم مثالي، تظل الولايات المتحدة المزود الأمني الأفضل لحلفائها، لكن الواقع مختلف: مع قيادة ترامب أو أتباعه، أصبح من الصعب الوثوق بأن واشنطن ستتصرف دائمًا لصالح حلفائها. لذلك، لم يعد الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة استراتيجية قابلة للتطبيق، والحلفاء يلجأون بحذر إلى التحوط والبحث عن دعم بديل، رغم التزامهم الحالي تجاه واشنطن.
روبرت إي. كيلي هو محلل سياسي أمريكي متخصص في الشؤون بين الكوريتين وأستاذ مشارك في العلوم السياسية في جامعة بوسان الوطنية.
بول بوست أستاذ مشارك في قسم العلوم السياسية بجامعة شيكاجو. مؤلف كتاب «اقتصاديات الحرب» ومؤلف مشارك في كتاب «تنظيم الديمقراطية».
الترجمة عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»