غزة"عمان "د. حكمت المصري:
لا يبدأ الشتاء في غزة من الغيوم، بل من الخيمة ، من قطعة قماش مهترئة، من أرض طينية، من جسدٍ أنثويٍّ يحاول الاحتماء من البرد ومن العيون في آنٍ واحد.
في قطاع غزة، حيث فقدت الغالبية الساحقة من السكان بيوتها، تعيش النساء فصلًا قاسيًا من النزوح، لا يُقاس بدرجات الحرارة، بل بمقدار ما تبقّى لهن من خصوصية وكرامة.
تعكس شهادات النساء اللواتي التقيت بهن في مخيمات النزوح، ومراكز الإيواء،ونقاط توزيع المساعدات، حقيقة أن البيت لم يكن جدرانًا فقط، بل مساحة أمان نفسي وجسدي.
تقول أم محمد عايش (52 عامًا)، نازحة من شمال غزة إلى دير البلح: " البيت كان يحفظ أسراري ، مكان راحتي ، عشت به ذكرياتي برفقة زوجى وأولادي، الآن أنا مكشوفة دائمًا، حين فقدت بيتي، شعرت أنني فقدت كل شيء. حتى دموعي لم تعد خاصة."
تجلس أم محمد داخل خيمتها، ترتّب الملابس التي جمعتها من حبل الغسيل المجاور،وتضعها في صناديق كرتونية مخصصة لكل فرد من العائلة، وتضيف: "كان بيتي واسعًا للأطفال غرفة بسرير وخزانة ، اليوم الخيمة هي كل شيء المطبخ، غرفة النوم،
وغرفة الجلوس ، لا أريد بيتًا جديدًا، أريد بيتي ، حتى لو كان ركامًا."
الحياة داخل المخيم: المرض كجزء من اليوم
لا تتوقف المعاناة عند فقدان البيت، بل تبدأ داخله من جديد بصيغة أخرى: مرض،رطوبة، خوف دائم..تضيف أم محمد وهي تسعل داخل خيمتها الرطبة: " منذ أشهر وأنا أعاني ألمًا في صدري. البرد لا يفارقنا، ولا يوجد طبيب في المخيم ولا دواء ، أتحمّل لأن لا
خيار آخر."
وفق معطيات منظمة الصحة العالمية، فإن أكثر من 50% من الحالات المرضية المسجلة بين النازحين في غزة خلال الشتاء هي التهابات تنفسية حادة، ترتبط مباشرة بالبرد، الرطوبة، والاكتظاظ داخل الخيام.
تصف أم محمد معاناتها قائله : " السعال يشتد ليلًا. أكتم صوتي بيدي حتى لا أوقظ أطفالي ، حتى المرض هنا يجب أن يكون صامتًا.”
الرطوبة وأمراض الجلد
داخل الخيام، لا تجف الملابس ولا البطانيات، وتتحول الأرض الطينية إلى بيئة خصبة للأمراض الجلدية.
تشير أم محمد إلى ذراع طفلتها: "ابنتي تعاني طفحًا جلديًا منذ أسابيع. الماء قليل، والصابون نادر. أخجل عليها المرض هنا مكشوف مثلنا."
وتؤكد تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة ارتفاعًا ملحوظًا في أمراض الجلد بين الأطفال والنساء النازحات، مثل الجرب والالتهابات الفطرية، نتيجة نقص المياه النظيفة ومستلزمات النظافة.
الخوف بدل الأمان
أما أم أحمد يونس (55 عامًا)، أم لثلاثة أطفال، فتصف الخوف بوصفه رفيقًا دائمًا: "أنا مريضة بالقلق أخاف من كل شيء من البرد، من الليل، من أن يمرض أحد أطفالي ولا أستطيع إنقاذه."
وتضيف: "حين ترتفع حرارة ابني، لا أملك سوى لمس جبينه والدعاء. أخاف أن أنام، أخاف أن يحدث شيء وأنا غافلة."
تشير تقييمات الصحة النفسية إلى أن أكثر من 70% من النساء النازحات يعانين أعراض قلق واضطرابات نوم، في ظل غياب شبه كامل للدعم النفسي.
الجسد الأنثوي في بيئة غير آمنة
اما الشابة سارة (23 عامًا)، نازحة في مواصي خان يونس، تقول: "أصبتُ بالتهابات متكررة بسبب المياه غير النظيفة والبرد. لا مرافق صحية مناسبة، ولا خصوصية. الجسد هنا يتحول إلى عبء ، حتى الدورة الشهرية أصبحت كابوسًا. لا فوط صحية كافية، لا ماء دافئ، ولا مكان آمن ،أشعر أن كرامتي تُستنزف يوميًا".
تشير تقارير طبية إلى أن نقص مستلزمات الصحة الإنجابية يعرّض آلاف النساء لمضاعفات صحية صامتة داخل المخيمات.
الأطفال الخوف الأكبر
النساء يجمعن على أن الأطفال هم الحلقة الأضعف.تقول أم محمد: " إبنتي تسألني: هل سنموت من البرد؟ لم تكن تعرف معنى الموت من قبل."
تؤكد بيانات صحية أن الأطفال دون سن الخامسة هم الأكثر عرضة للإصابات التنفسية والإسهالات في مراكز الإيواء، بسبب ضعف المناعة وسوء التغذية.
أرقام تكشف حجم الكارثة
وفق بيانات الأمم المتحدة، يعيش نحو 1.9 مليون فلسطيني كنازحين داخليين في غزة، أي ما يقارب 90% من سكان القطاع.
وتشير تقديرات أممية إلى تدمير أكثر من 280 ألف وحدة سكنية كليًا أو جزئيًا.
ويؤكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن أكثر من 1.4 مليون شخص بحاجة إلى تدخل عاجل في قطاع الإيواء، في ظل عجز حاد في الاستجابة الإنسانية مع دخول الشتاء.
أما الأونروا، فتشير إلى أن مراكز الإيواء المكتظة تفوق طاقتها الاستيعابية وتفتقر لشروط العيش الآمن، خصوصًا للنساء.
في البيوت، كانت الخصوصية حقًا طبيعيًا في المخيمات، تحولت إلى رفاهية مفقودة: حمامات مشتركة، مساحات مكتظة، غياب الأمان الليلي.
فقدان المنزل: صدمة نفسية عميقة
في سياق متصل تؤكد الدكتورة ختام أبو عودة الأخصائية الاجتماعية النفسية أن فقدان المنزل لا يُعد خسارة مادية فحسب، بل صدمة عميقة تمس الإحساس بالأمان والهوية، خاصة لدى النساء.
البيت يشكّل لدى المرأة "الحيّز الآمن” الذي تُمارس فيه ذاتها دون رقابة أو تهديد، ومع فقدانه تفقد السيطرة على حياتها وجسدها ومشاعرها.
اضافت ابوعودة : " النساء النازحات لا يعانين فقط من الحزن، بل من قلق دائم، اضطرابات نوم، نوبات بكاء مفاجئة، وشعور مزمن بالانكشاف. غياب الخصوصية داخل الخيام يضاعف الأثر النفسي، وقد يؤدي إلى الاكتئاب أو أعراض الصدمة المعقّدة."
وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن الظروف غير الآمنة للنازحين في غزة تُشكل بيئة عالية الخطورة على الصحة النفسية للنساء والأطفال، في ظل نقص الدعم النفسي المستمر واستمرار الصدمة دون أفق للتعافي.
شتاء الخيام حين يصبح الجسد مكشوفًا
الخيام التي نُصبت على عجل لا تقي من تسرب مياه الأمطار والرياح و البرد القارس.
وتحذر منظمات إغاثية من أن آلاف الخيام غير مقاومة للشتاء، ما يعرض النساء وكبار السن والأطفال لمخاطر صحية جسيمة.
في غزة، لا تعاني النساء فقط من فقدان البيوت، بل من فقدان الشعور بالحماية، الخصوصية، والطمأنينة.
الشتاء هنا ليس فصلًا بل حالة دائمة من المرض والخوف والانكشاف. نساء غزة لا يطلبن المستحيل ، يطلبن فقط بيتًا، بابًا يُغلق، وسقفًا لا يسقط مع أول قطرة مطر.