طاهر علوان
لا شك أن ما نشهده من تطور هائل في شكل ثورة تقنية ورقمية لا حدود لها توّجها الذكاء الإصطناعي وكيف صار يتغلغل في جميع مفاصل الحياة تقريبا وبما في ذلك مجال فن الفيلم وصناعة السينما، كل هذا رافقه جدل متواصل حول مدى ارتقاء «النوع الفيلمي» بعد كل هذه المستحدثات إلى المستوى المأمول على الرغم من كثرة ما هو معروض من أفلام إلا أنه من غير السهل أن تعثر وسط ركام الأفلام المنتجة خلال هذا العام 2025 إلا على القليل مما هو متميز بحق.
هذه الظاهرة تحدث عنها العديد من النقاد وكانت أصواتهم تعلوا خاصة أثناء انعقاد مهرجانات عالمية كبيرة وذات شهرة واسعة مثل مهرجان كان وبرلين والبندقية وكارلو فيفاري وغيرها من المهرجانات.
في موازاة ذلك وفي وسط هذا الجدل يظهر هذا الفيلم من إخراج جييرمو ديل تورو ليتوقف عنده الكثير من المخرجين والنقاد على أنه فيلم مختلف واستثنائي مع أنه يسير على سكة ذلك النوع الذي يستوحي ذلك النص الروائي الذي مرت عليه عقود طويلة ويعود الى العام 1818 عندما ظهرت رواية ماري شيلي وكانت وما تزال دعامة أساسية في ما عرف بالفن القوطي بمزجها الخيال العلمي القائم على نزعة الابتكار والذي يمتزج بالرعب والفانطازيا.
هذا الخيال العبقري امتزج بخيال دي تورو والحلم الذي راوده لسنوات طويلة خلت كما أعلن عن ذلك مرارا أن شخصية فرنكشتاين ورواية ماري شيلي عاشت معه في خياله ولطالما داعبت خياله وكانت حلمه المؤجل أن يراها على الشاشة.
يستوحي المخرج تلك الرواية وينطلق من نهايتها ليختصر لنا التراجيديا التي سوف تتوالى فصولها منطلقا من شخصية فيكتور فرنكنشتاين - يؤدي الدور الممثل أوسكار أيزك، ذلك العالم الذي يذهب في بحثه بعيدا باتجاه استشراف ما هو جنوني ولا منطقي، فهو معني من ضمن أبحاثه ونزعته الغرائبية وتمرده بتجميع أجزاء الكائن وعرض ابتكارات صادمة في مجتمع محافظ تسيطر عليه الكنيسة ولهذا سرعان ما اتهمه أساتذة الطب بالهرطقة والسحر وهو يعرض أجزاء تشريحية لكائن ينطق ويتحرك، لكن ها هو الكائن الافتراضي وقد تحول إلى حقيقة وتحول إلى شبح يلاحق من ابتكره، ها هو فرنكشتاين مثقلا بالمرض والجراح في مواجهة ذلك الكائن الوحشي ــ يقوم بالدور الممثل جاكوب ايلوردي، يلاحقه فيما هو راقد في داخل سفينة انحرفت عن مسارها وهي شبه غارقة في فضاء جليدي.
من هنا يتم إنشاء بنية سردية متوازية قوامها وجهتا نظر فرنكشتاين المبتكر ومقابله كائنه الوحشي الافتراضي الذي تم تركيبه بناء على تجارب فرنكشتاين الذي ما يلبث أن يعود بالذاكرة إلى طفولته ونشأته تحت وطأة والد طبيب متزمت وصارم يقوم بالدور الممثل الكبير تشارلس دانس، وبذلك ينحرف السرد عن الغرائبية والرعب الى ما هو واقعي ويومي ليفصح لنا طابع التمرد لدى فرنكشتاين وكيف الهمه ملاكه الحارس.
أما إذا مضينا مع تلك الحقبة التاريخية فإن المخرج وفريقه كانوا بارعين في تأسيس حياة كاملة غزيرة بتفاصيلها ، فالمكان يرتبط بجميع مفرداته ومكوناته بالنوع القوطي وبالقرن الثامن عشر وتقاليده وسياقاته والشكل المعماري وأنماط الحياة وصولا إلى الأزياء والاكسسوارات وهو ما احتشد به هذا الفيلم وجعل شخصياته منتمية لذلك الزمن ومعبرة عنه ولهذا ربما لم يستوعب البعض ما اكتنزه الفيلم من جماليات في هذا المجال باحثين عن قصة سينمائية عادية مما هو سائد وسهل الاستهلاك حتى عيب على المخرج المونتاج والشكل في أثناء انعقاد مهرجان البندقية الأخير. لقد نال الفيلم بشكل عام خلال كل ذلك اهتماما بالغا من طرف عدد كبير من أهم النقاد على مستوى العالم ولو اردنا استعراض بعض قليل منها لما اتسع الحيز المتاح ولكن لنتوقف عند رأيين جديرين بالأهمية.
ففي هذا الصدد يقول الناقد غلين كيني في موقع روجر ايبيرت:
« يُعد هذا الفيلم إنجازًا مذهلاً، وردّا مثيرا على الحكمة التقليدية حول مشاريع الأحلام. يقدم الكاتب والمخرج شيئا جديدا تقريبا، وغنيا وغريبا بلا شك، من قصة ظننا جميعا أننا نعرفها جيدا. لقد نسج المخرج قصة الفيلم بطريقة جعلت الفيلم ليس فقط صادما على طريقة أفضل أفلام الرعب، بل مؤثرا للغاية، موسعا بذلك البُعد الإنساني الذي أبرزه جيمس ويل في فيلميه الكلاسيكيين «فرنكشتاين» و»عروس فرنكشتاين» في ثلاثينيات القرن الماضي وحيث يؤمن الفيلم بالقصة التي يرويها، ويحرص على الغوص في جميع دلالاتها الفلسفية والروحية وما ترتب على ذلك من انتاج كابوس بصري يُمكن أن يُصيبك بالذهول».
أما الناقد كيران باتمس فيكتب في موقع فويس ماغ « فرنكشتاين، مثل ترنيمة عيد الميلاد، من القصص الخالدة التي تبدو وكأنها موجودة منذ فجر التاريخ. لقد تم اقتباسها وإعادة تقديمها مرات لا تُحصى منذ ظهورها، حتى بات من الصعب تخيل عالم تبدو فيه أي نسخة منها جديدة تمامًا. لكنني واثق تمامًا من أننا لم نرَ عالم الكاتبة ماري شيلي يُجسّد بهذه الروعة من قبل، لأن رؤية ديل تورو تبدو حاسمة في تجسيدها لجوهر ذلك العالم القوطي الساحر».
ربما كان هذان الرأيان يلقيان الضوء على المجمل العام عند نقيم الفيلم ضخم الإنتاج والمشبع بصريا بفضل الفريق الفني ومدير التصوير
دان لاوستن، الذي رافق ديل تورو منذ فيلمهما الأول «ميميك» عام 1997، حيث يقول إن أسلوبهما لم يتغير كثيرا، ويقول «لقد استخدمنا مثلا ضوءا واحدا من النوافذ، وكنا نحرك الكاميرا بالرافعات، وكنا نميل إلى الزوايا الواسعة والظلال العميقة».
هذا الشرح لجانب من جوانب التجديد على صعيد التصوير وتوظيف السينوغرافيا يعطينا رؤية بعيدة ظلت ترافق احداث الفيلم فجميع مشاهده تقريبا تم بناؤها جماليا وحسيا من نواحي الإضاءة وحركات الكاميرا والخدع البصرية واستخدام الزوايا والعدسات وما الى ذلك.
من جانب آخر، لم يهمل المخرج العلاقات بين الشخصيات فقد بنى هيكلية ملفتة للنظر قوامها اكتشاف الوحش لذاته وكيف تدرج وعيه وكيف تحول تعلم اللغة الى مأزق انساني مأساوي وكلما كان الوحش يمضي في التعلم يزداد اغترابا وتمزقا وصولا إلى تلك السكينة الغامضة عند لقائه الرجل الكهل الوحيد في المنزل المهجور حيث تجلت معان إنسانية عميقة بدأ يكتشفها الكائن.
أما التحول الآخر فقد تمثل في إدراكه لغة الألم والحاجة للآخر وكان ظهور الفتاة الحلمية العجيبة «قامت بالدور الممثلة ميا غوث» وهي خطيبة شقيق فرنكشتاين التي سوف تُقتل عن طريق الخطأ في ليلة عرسها لتعبر عن سعادتها انها كانت تنتظر متى سوف تستقر ذاتها وحواسها برؤية كائن غرائبي لا ينشد شيئا سوى أن يشعر بكيانه الآدمي.
على الجانب الآخر، كانت شخصية فرنكشتاين هي عبارة عن خليط مؤثر برع الممثل اوسكار ايساك في تجسيده ببراعة فهو الذي كان يتنقل في هارموني متناغم ما بين نزعات مضطربة وحالات جنونية ثم نزعة عبقرية وروح متوثبة تتوخى التمرد على العديد من الظواهر الجامدة وغير المجدية، إنه تكامل فذ جمع ما بين العبقرية والجنون والانانية والغطرسة كلها معا تتفجر عبر مشاهد الفيلم.
سيناريو وإخراج: جيييرمو ديل تورو
عن رواية ماري شيلي
تمثيل: أوسكار ايساك في دور فيكتور فرانكشتاين، جاكوب ايلوردي في دور الوحش، تشارليس دانس في دور والد فيكتور، ميا غوث في دور خطيبة شقيق فيكتور
مدير التصوير: دان لوستسين
مونتاج: إيفان شيف
موسيقى: الكسندر ديسبلات
التقييم: آي أم دي بي 7.5 من 10، موقع ايمباير 4 من 5، موقع روجر ايبيرت 4 من 4 موقع كومين سينس 4 من 5 موقع ميتاكريتيك 4 من 5