الخميس، 13 يونيو 1991، سان دييغو، كاليفورنيا

حديث مطوَّل مع الطبيب المشرف المباشر على علاجي في المصحَّة حول التَّقدم المُحرَز حتى الآن من إجراء الصَّدمة الكهربائيَّة الأُحاديَّة (وهذا الطبيب أفضل ألف مرَّة من طبيبي النفسي الأصلي الأحمق الذي يظن أن السيِّد المبجَّل سِغْمُند فرويد شخصيَّا ليس إلا واحدا من أسوأ تلاميذه). أبدى بعض الملاحظات الإيجابيَّة حول التقرير الخُلاصي الذي كتبه طبيبي النفسي الأصلي؛ فاكتفيت بابتسامة محايدة إذ أني ارتأيت أنه ليس من صالحي، في هذا المقام، أن أشتم أي أحد.

تحدث هذا طويلا بصورة علميَّة، وطبيَّة متقنة، ومقنِعة، بخصوص ما أعرفه أصلا: لا توجد حلول سحريَّة لمرض الاكتئاب المزمن الحاد؛ فهذا جذوره متأصلة، ومتشابكة، ومعقَّدة، وإن علينا الانتظار لبعض الوقت. كل هذا أفهمه جيدا، وقد قرأت عنه بما فيه الكفاية.

لكنه أردف شيئا يهمني أيضا؛ فقد قال إنه كان ينبغي بدء علاجي من الاكتئاب في بدايات نشأتي قبل أن تتعقد الحالة إلى هذا الحد المؤسف الذي تأخر فيه الوقت «بعض الشيء». غير أني أدرك جيدا أنه كان يقصد «كثيرا جدا» (وليس «بعض الشيء» فقط)؛ حيث أعرف تمام المعرفة أن المواربة اللغويَّة من طبائع اللسان الأمريكي. وفي كل الأحوال، أظنه يقصد أنه كان ينبغي أخذي من بيت العائلة وأنا طفل صغير، في سيارة إسعاف ذات ثماني أسطوانات من نوع «شيفورليه» ومجهَّزة كامل التَّجهيز، وهي تشعل أضواءها الزرقاء والحمراء وتطلق بوقها التحذيري في أزقة مجز الصُّغرى، منطلقة إلى «المستشفى المركزي التخصصي لعلاج الحالات النَّفسية والأمراض العقليَّة والاضطرابات العصبيَّة والأعراض الذُّهانيَّة في ولاية صحم»، وذلك في نهاية الستينيات/ بداية السبعينيات من القرن المنصرم حيث كان حال العُمانيّيِن ما كان عليه.

المشكلة هي أن هذا الطبيب الطيب، بتأملاته الرَّصينة واقتراحاته الوجيهة، لا يعرف أن محمد حسن الأعرج والأغتم (أو «الغَتَمْ» بالدَّارجة كما كان يُلَقَّب لأنه كان يجد صعوبة كبيرة في النُّطق بسبب مشكلة خَلقيَّة تكاد أن تكون بكما كاملا)، سقَّاء القرية الذي كان يجلب لنا الماء العذب من «البحايص» (عيون الماء العذب في الوادي) على ظهر حماره لقاء أجر زهيد، أفاق ذات صباح ليجد أن حماره قد نفق، فأصيب بالشَّجن والفقد فورا.

كان محمد حسن وديعا، ومبتسما، ورقيقا مع تلك الكائنات البسيطة والصَّبور التي تدبُّ على أربع، والتي كان يملك العديد منها بحيث يمكن أن نطلق عليه صفة «مُرَبِّي حمير» على شاكلة «مُرَبِّي خيول»، وذلك في بلدان وأنحاء لا تعرف الشَّظف الذي كانت تقاسيه مجز الصغرى بشَرا، ورملا، وحجرا، وحيوانات. ولكني لا أعتقد أن محمد حسن -الذي كان يجلب الماء العذب إلى بيتنا ضمن البيوت الأخرى، وألقاه بصورة يوميَّة تقريبا- وحميره لهما علاقة وطيدة بتشبيهي بالحمار والحمير، بل إني شاهدت قبل مدة فيلما وثائقيَّا عن فصيلة من الحمير الإسبانيَّة لا تتوفر على القدرة الإدراكية لفكرة الانتحار فحسب، بل إنها تقدم عليه بالفعل حين يبلغ السيل الزبى.

في أية حال، صارحت الطبيب بأنني لا أعرف في أي عُمر على وجه الدِّقة والتحديد ابتدأت إصابتي بالاكتئاب (الذي لم أكن أعرف أن هذا هو اسمه أصلا)، وإن كان ذلك قد حدث بصورة مبكرة بالفعل. ومن نافلة القول لم أخبره أني كنت أحاول المشي وأنا صغير، كما يفعل كل الصغار. لم أقل له إن صوتا هادرا مزمجرا كان يصيح بي قائلا: «إنته يا حمار ما تعرف حتى تمشي كما يمشوا النَّاس». وهذا قد يكون صحيحا وقد يكون غير صحيح. وهكذا فقد بدأت أمشي خلف الناس القلائل في القرية الصغيرة مقلدا إياهم ومتعلِّما منهم الطريقة «الصحيحة» للمشي. وقد تعقَّد الأمر كثيرا في أبوظبي، ومسقط، ولندن، وروما، والقاهرة، والرباط، وسان دييغو، إلخ، إذ أخفقت تماما في أن أرى أنني «لا أعرف حتى أن أمشي كما يمشون الناس». وإلى هذا فقد جرَّبت مختلف الأنعل والأحذية بجوارب قطنيَّة وصوفية وغيرها، ولا يزال يسقط في يدي.

كما صدر بحقِّي حكم آخر: «لو الحمار يتعلَّم إنته بتتعلم». للأمانة والموضوعيَّة، هذا قد يكون صحيحا (على اعتبار أن «فرضيَّته الأولى» [basic premise]، كما يقول المناطقة، لا غبار عليها). وإلى هذا فإن لديَّ تحفظ علمي بسيط: في الحقيقة، لا تنتمي الحمير إلى عائلة الـ hominidae/ homo sapiens، بل إلى عائلة الـ.equidae ولا أدري إن كان هذا من سوء حظي أم من سوء طالع الحمير، لكني أعرف على وجه الدقة واليقين أنه من الصعب تشبيهي بالحمار (سواء تعلَّم أو لم يتعلَّم) إذا كنت منتميا لعائلة الـ phylum chordata، كالأسماك مثلا.

وإضافة إلى ذلك، فقد جاء هذا: «يا حمار إنته ما تعرف حتى تاكل كما ياكلوا النَّاس». وللموضوعيَّة، والنَّزاهة، والإنصاف، وإعطاء كل ذي حق حقه، هذا كلام لا يخلو من الصحة أبدا (وإن يكن بأثر «تقدُّمي» وليس «رجعيَّا»)؛ فأنا، منذ ذلك الحين، لا أحب أن آكل ليس «كما النّاس» فحسب، بل حتى «مع الناس» أيضا؛ إذ أني طوَّرت نظريَّة وممارسة (praxis) خلاصتها أن الأكل مسألة شَهَويَّة، وشهوانيَّة، وحسيَّة (sensuous)، مثلها كَمِثلِ التجربة الحِسيَّةِ والأيروسيَّةِ (sensual) في تجليها الأقصى والأعذب: ممارسة الجنس.

ولذلك فقد توصلت إلى قناعة مفادها أنه لا ينبغي أن تأكل إلا وأنت وحيدا أو مع شخص واحد فقط، وفي أقصى درجات الخصوصيَّة التي لا تريد أن يراك فيها أحد، تماما وبالضبط كما لا تريد أن يراك أحد في اللحظة الحميمة وأنت مع شريكتك على السرير.

هكذا، إذا، تطورت لديَّ عادة عدم الأكل في المطاعم على الرغم من العزوبيَّة الطويلة وإخفاقاتي الباهرة في الطبخ بما في ذلك تلك المهارات الاستثنائيَّة الخارقة التي يتطلبها إنجاز البيض المسلوق. لكن، وعلى طريقة «مكره أخاك لا أبطل» اضطر أحيانا للأكل في مطعم، أو تلبية دعوة غداء أو عشاء، إلخ.

ما أفعله بصورة منهجيَّة ومُنَظَّمة هو الاتصال هاتفيَّا لطلب وجبة مصحوبة ثم تناولها في مكان الإقامة بأسوأ طريقة ممكنة لـ«يا حمار إنته ما تعرف حتى تاكل كما ياكلوا الناس». والحقيقة أني أستمتع بطريقة أكلي الحيوانيَّة والحسيَّة الشَّبقة، كما يفعل العشَّاق والحمير بالضبط.

أما أسوأ الأسوأ في سلسلة «يا حمار إنته ما تعرف حتى» فقد كان حلقة «يا حمار إنته حتى ما بتكون رجَّال كما الرِّجال» (التي فيها، هذه المرة، استبدالٌ شيطانيٌّ لعبارة «كما الناس» بـ«كما الرِّجال»)، وذلك في أسوأ توقيتٍ إخصائيٍّ ممكن؛ فقد كنت حينها في الصبا القروي المكبوت الذي تثار فيه مسألة المرأة، وجسد المرأة، وما يحدث بين الرجل والمرأة، مطروحة بقوَّة في أحاديثنا السِّريَّة نحن معشر الصغار الفضوليين. لكن الأمر كان قد حُسم في قرار «يا حمار إنته حتى ما بتكون رجَّال»، وقد فهمتُ المقصود رأسا. وإلى الآن، وعلى الرغم من تراكم تجربة لا بأس بها، لا يزال الخوف من أن «ما أكون رجَّال» يسبقني إلى المخدع في كل مرَّة.

كان حديث الطبيب النفسي في المصحَّة -وهو عجوز بالتَّمام، والضَّبط، والوقار- طيِّبا و«أبويَّا» إلى حد كبير. ولا أدري لِمَ لَمْ أشعر بنفوري المعتاد من أي حديث يصدر من «أب» أو من يشبهه و/ أو يمثِّله في الأشخاص والمؤسسات خلال استماعي المنصِت له. ليس هذا فحسب، بل أني تقريبا تمنيت لو كان هذا الشخص أبي بالفعل. أظن أن الأمر يتعلق بالتناقضات والمفارقات التي يثيرها في المرء الشعور الكامل باليأس، وفقدان الأمان والثقة في المصدر الأصل. ولعله يكشف أيضا عن أمنية دفينة وغير معلنة لوجود «أب طيِّب» لكل ولد أو بنت في هذا العالم.

طلبت من هذا الطبيب الطيِّب أن تجرى لي الصَّدمة الكهربائيَّة الثُّنائيَّة، لجانبي المخ معا بدلا من جانب واحد فقط. وهو وافق بعد أن شرح لي المحاذير التي قد تحدث، والتي أعرفها سلفا نتيجة لقراءاتي أدبيَّات متعلقة بطبيعة هذا النوع من الصَّدمات الكهربائيَّة.

وفي أية حال، كان كلانا على قناعة أنه ما دامت لم تحدث نتائج سلبيَّة خارج الأعراض والآثار الجانبيَّة التقليديَّة والنموذجيَّة لإجراء الصَّدمة الأحاديَّة، فإنه ليس من المرجَّح أن تسفر الصَّدمة الثنائيَّة عن أيَّة آثار سلبيَّة خارج التَّوقع والحيطة الطِّبيَّة المسبقة.

---------------------------------------

(*) غادر محمد حسن عالمنا إلى مكان آخر في يوم الجمعة، 31 مارس، 2017 (حاشية أضيف إلى المتن في يوم الأربعاء، 17 ديسمبر، 2025، مسقط).

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عُماني