لم يكن ترفا أو تزيّدا أن تفرد رؤية عمان 2040 ضمن أولوياتها أولوية خاصة تعنى بـ «المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية»؛ فالتفنيد الفلسفي لهذه الأولوية يظهر أن عناصرها على درجة كبيرة من الترابط الذي يجعل كل مفردة لا يمكن أن تعمل بمعزل عن الأخرى، فإذا كان التراث يشكل (حافظة) لذلك المخزون التاريخي المتراكم من القيم والعادات والتجارب والرموز التي شكلت مجتمعا ما عبر الزمن؛ فإن الثقافة الوطنية تشكل الصورة المعبر عنها لذلك الامتداد التاريخي في لحظة المجتمع الراهنة، مشكلة أنماط السلوك، واللغة، وطبيعة الفنون، وآليات تدبير العيش التي يمارسها المجتمع انسجاما مع تراثه وامتدادا له.

أما الهوية فهي حصيلة تفاعل الأفراد مع تلك الثقافة، وطبيعة ما ينتجونه ويعبرون عنه نتيجة اندماجهم، مما يجعل لهم خاصية مميزة عن سواهم من مجتمعات وجماعات، وسمات مشتركة بها يتصلون مع المجتمع أو الجماعة الواحدة.

وحين تتحول تلك المفردات المادية والمعنوية إلى محددات تنظم العلاقة بين الأفراد وحيزهم السياسي والجغرافي، وتنشأ عنها استحقاقات وواجبات في إطار التدافع المدني، يأتي هنا مفهوم المواطنة بوصفه محصلة محددة لها شكلها الإجرائي كنتيجة لتفاعل كافة المكونات السابقة.

هذه الأبعاد لا تنشأ ولا تستديم ولا تعمل بمعزل عن بعضها، كما أن أي تحول أو تغير بنيوي يصيب أحدها فبالضرورة يؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على البعد الآخر.

إذًا تشكل الثقافة وسط هذه المكونات (البعد المادي والمعنوي) الممارس، الذي يمكن للفرد والجماعة والمجتمع التعبير عنها، كما يمكن للآخر استشعاره وتمييزه والعبور من خلاله إلى فهم المجتمع، والانسجام مع مقاصد قيمه العميقة، ومعرفة أنماط عيشه، والمسوغات التي تجعل أفراده يتصرفون بطريقة معينة دون أخرى.

وبقدر ما أحكمت المجتمعات والدول تصدير ثقافتها بشكل جيد وممنهج، استطاعت تسويق رسائلها، وبث التأثير العالمي، وبالتالي حصدت نتاجا مباشرا وغير مباشر يتجسد في جذب السياح، وتعزيز مواقفها المختلفة، وتوسيع شبكات اندماجها العالمية، وتعزيز حضورها الدولي، وهو ما يعبر عنه اليوم بمصطلحات مثل (الدبلوماسية الشعبية)، و(دبلوماسية الإبداع)، و(عبور الصناعات الإبداعية).

في سلطنة عمان عرف مشهد إدارة الثقافة خلال السنوات الماضية جهودا عديدة، لعل في مقدمتها استصدار استراتيجية جديدة بمسمى «الاستراتيجية الثقافية 2021 - 2040» بقصد تنظيم وتطوير العمل الثقافي، وتهيئة البيئة المناسبة للإبداع، بهدف ترسيخ الهوية الثقافية، وتحقيق الريادة وتنميتها واستدامتها محليا وعالميا.

كما كان للحضور العماني في محافل الثقافة الإقليمية والعالمية نشاط واسع، إضافة إلى الأحداث الثقافية البارزة كـ «إكسبو» و«بينالي» ومعارض الكتاب الدولية في العواصم المختلفة وسواها، كما شهدنا حراكا واسعا حول ملف «الصناعات الإبداعية» تجسد في مختبرات وبرامج لبناء القدرات وأطر عمل توجه مساراتها المستقبلية، إضافة إلى تعزيز دور الوجهات الثقافية بسلطنة عمان في التأثير وعلى رأسها دار الأوبرا السلطانية. كل هذه الجهود تدفع باتجاه تسويق الثقافة والمنتج الثقافي العماني، إلا أن وتيرة التدافع الثقافي العالمي تفرض اليوم التفكير في حضور أكثر تأثيرا للثقافة العمانية، حضور يتماشى مع آليات التأثير الجديدة وغير المباشرة، ويستطيع أن يقدم رسالته من خلال التجربة، والمعايشة، والانسجام، والانسياب في التفاصيل الصغيرة.

ومن الأفكار التي يمكن أن تسهم في ذلك، خلق حدث ثقافي عالمي يرتبط بمنطقة جغرافية معينة في سلطنة عمان وتلتصق صورته الذهنية بها، ويصمم ليكون مقصدا سنويا للمثقفين، والعاملين في إدارة ملف الثقافة، والمؤثرين الثقافيين، والمنخرطين في الصناعات الإبداعية، والمهتمين بالشأن الثقافي، وليكن على سبيل المثال بمسمى (قمة الجبل الأخضر)، أو (قمة خصب)، بحيث يركز بشكل أساس على الكيفية التي يتغير بها مفهوم الثقافة عبر السنوات، وكيف يمكن التعامل مع شأن إدارة الملف الثقافي عالميا، ويفند الطرق التي يمكن من خلالها التفكير في الثقافة ذاتها دورا وتجسدا واستراتيجية.

ومن الأفكار كذلك ابتكار ودعم علامات تجارية متخصصة مستمدة من الأزياء العمانية مثلا، أو منتجات تعتمد على حصاد الطبيعة العمانية، أو إقامة شراكة مع علامات تجارية عالمية قائمة لتطوير منتجات مخصصة باسم سلطنة عمان أو مفرداتها ومنتجاتها الثقافية. كما يمكن التركيز على ما يعرف اليوم بـ «دبلوماسية الطعام»، والتركيز على انتشار وجبات عمانية محددة بأسلوب عصري وتسويق ذكي لتشتهر كعلامة عالمية في مختلف العواصم، مع استهداف الذائقة المتغيرة للأجيال العالمية.

وفي الجانب السياحي فإن التركيز على نمط السياحة القائمة على «تجارب العيش» قد يكون ممكنا مهما من ممكنات تصدير الثقافة العمانية، والفكرة هنا أن يتم تصميم باقات سياحية بالتعاون مع المجتمع المحلي يأتي من خلالها السائح ليعيش تجربة الحياة في عمان، أو تجربة بعض العناصر والممارسات الثقافية كما لو كان فردا منسجما مع مجموعة أو أسرة عمانية، وليس زائرا متعرفا أو مُشاهدا عابرا؛ من تجارب وفنون الصيد في جنوب الشرقية، إلى تجارب الانسجام مع الإبل وتربيتها وسباقاتها في الوسطى، إلى الممارسات المميزة المرتبطة بالمناسبات الاجتماعية في شمال الباطنة، إلى أسلوب العيش البدوي في بعض مناطق محافظة ظفار، وسواها. كلها تجارب بتفاصيل ثقافية تستحق أن تعاش ويتم تصميم منتجات ثقافية خاصة بها، وتسوق بوصفها نمطا عابرا للثقافات وفي الوقت ذاته هو يتصل بمجتمع وهوية معينة.

إننا نعيش اليوم وسط كتلة هائلة من المنتجات الثقافية العالمية، التي لا تأتي بمفرداتها الملموسة فقط؛ بل تأتي حاملة معها ثقافات وقيما وتجارب عيش واتجاهات ومفاهيم جديدة، استطاعت الثقافة اليابانية تصدير مفاهيمها من خلال الأنمي وألعاب الفيديو وأنماط معينة من الطعام، واستطاعت مجتمعات الثقافة الاسكندنافية تصدير قيم البساطة والاعتماد على الذات من خلال العلامات التجارية للأثاث، واستطاعت دول كتركيا والهند والمكسيك تصدير مفاهيمها الثقافية من خلال الدراما ومنتجات الأفلام، وفي تقديرنا فإن ما تحمله الثقافة العمانية من إرث ومفردات وتجارب جدير بأن يعبر ليجد له موقعا مستديما في الذاكرة العالمية وخريطة التأثير عبر الشعوب.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع، والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عمان