بعض الوظائف، وبعض المواقف أيضا، تلزمك بأن تتجرد من كثير من عواطفك، ولو لأقرب الناس إليك، فالوظيفة -إن أردت أن تخلص لها- لا بد أن تتجرد من كثير من مظانك النفسية، لأن متعلقاتها لا تخصك أنت كشخص، وإنما متعلقة بجمهور طويل عريض، لن تستقصي آخر فرد فيه،

وبالتالي فالإخلال في أداء واجباتها يوقعك في أسر لن تخرج منه طوال سنوات عمرك، حتى ولو بأسمى الطاعات والواجبات الشرعية؛ حيث لا بد أن يسامحك كل هذا الجمهور من أقصى الجغرافيا؛ إلى أقصى الجغرافيا، والمواقف أيضا، حيث اللحظة الحرجة، إما أن تكون أولا تكون،

وفي كلا الأمرين عليك أن تواجه مصيرك بنفسك، فالآخرون من حولك، ولو أقرب الناس إليك؛ لن يدركوا حقيقة ما يعتلي داخل نفسك في تلك اللحظة، ولذلك عليك أن تبعد كل المؤثرات التي من شأنها أن تربك حساباتك في تلك اللحظة، فإن فزت فعائد ذلك إليك وإلى حكمتك ولن يكون للآخرين من حولك أية دور، وإن انهزمت تحملت ذلك بنفسك؛ دون أن تحرج الآخرين بوقع هزيمتك.

ومع ذلك فالأمر ليس بهذا التنظير الذي نبحثه هنا، فحسابات اللحظة الحرجة في كلا الأمرين -المثالين- قد يخرج بك عن تجردك ويسقطك في مطب الخسارة، الهزيمة، التراجع، تغيير القناعات، قل ما شئت في ذلك كله، والسبب أن البيئة المحيطة قد توقعك في مآلات التسلط، والجهل، والمحاباة، كما هو الحال في البيئة الوظيفية، فتسقط تجردك مع أي لحظة ضعف من هذا،

وفي لحظة المواقف قد تملي عليك نفسك «الأمارة بالسوء» إشباع نفسك بالعواطف، حتى وأنت في غير حالتك الطبيعية، فالعائلة -على سبيل المثال- واحدة من المواضع التي لا تترك لك فرصة التجرد من كثير من متعلقاتها، وذلك لأن العائلة تشبه بالزجاج، فإن سقطت تشوهت، أو عطبت، أو تجرحت، حيث تصاب بكثير من الندوب والجروح، وأنت يقينا لن ترض لأن تحدث كل هذه التشوهات بسبب مواقفك أنت وقناعاتك،

ولذلك تتحفز نفسك إلى العودة إلى ما قبل اتخاذ القرار، فهذه أمي، وهذا أخي، وهذه أختي، وهذه زوجتي، وهذه ابنتي وهذا ابني، وقس هذه الشمولية على الأعمام، والأخوال، وذي القربى، حيث تتهاوى عليك، وأنت في هذه اللحظة، كل هذه القرابات في طابور طويل، فأنى لك أن تتخلص من كل ذلك، وتعيش للحظة متجردا من كل عاطفة؟! سئل إريك هوفر -مفكر أمريكي ومؤلف كتاب المؤمن الحقيقي- عن ماهية أفيون الشعوب؟ فأجاب: «الفكر الذي يأمر الناس بالصبر على الظلم دون رفضه، والقناعة بالفقر دون مكافحته، والرضا بالواقع المزري دون محاولة تغييره، بأنه «أفيون الشعوب» -انتهى النص- ولذلك ينظر إلى هذه المعززات النفسية: الصبر، والقناعة، والرضا هي جزء لا يتجزأ من بنيوية التجرد،

ولذلك فعندما تتحرر من هذه المحددات فأنت عتقت نفسك من التجرد، لأن الصبر والقناعة والرضا هي التي تربطك بالآخر لتلتحم معه فلا تستطيع أن تجرد نفسك، وتعطيها المساحة الكاملة للاشتغال على نفسها فقط، فأنت وحالتك هذه لا تزال مأسورا بالآخر من حولك، وأسرك هذا يذهب بك إلى الانحياز والتماهي، وقد تفقد شخصيتك الحقيقية، وهذه مسألة خطيرة، وكما نردد دائما: «إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة؛ فإن سداد الرأي ترك التردد» فالتردد يتصادم مع التجرد بصورة مباشرة.

ربما؛ قد يسيء البعض الفهم ويصف التجرد بأنه نزعة من هوى النفس، وأن الشخص المتجرد «عايش لنفسه» وهذا ليس صحيحا، وليس من الحكمة إطلاقا أن يسلم الفرد نفسه للآخر يوجهه كيفما يشاء، سواء كان هذا الآخر فرد مثله، أو جماعة، ويقبل هذا التسليم في حالة واحدة فقط، وهي الحالة في البيئة المؤسسية، التي تخضع لقوانين وأنظمة؛ يجب أن يلتزم بها كل عضو فيها، أما بخلاف ذلك فالأمر في حل من أي التزام، ولا أذهب هنا إلى المظلة الشرعية التي لها أحكامها الخاصة، والتزاماتها الواجبة.