الفقه ومقاصده ودوره في بناء الوعي السياسي -
مقاصد الشريعة أساس بناء الدولة.. من حفظ الدين إلى ترسيخ العدل والحرية -
الشورى قيمة ثابتة في التجربة العُمانية.. وهكذا طبّقها الأئمة عبر التاريخ -
يشكل الفقه الإسلامي بمنظومته التشريعية ومقاصده العليا أحد أهم المرتكزات التي أسهمت عبر التاريخ في بناء الوعي السياسي وصياغة علاقة الإنسان بالمجتمع والدولة، وفي السياق العُماني على وجه الخصوص، اكتسب الفقه دورا بارزا في ضبط حركة الحكم، وترسيخ قيم الشورى والعدل والمساواة، وتوجيه الممارسة السياسية نحو الأصلح والأنفع،. وفي هذا الحوار، نقترب مع الدكتور طالب بن علي بن سالم السعدي من ملامح هذه العلاقة بين الفقه والوعي السياسي، مستعرضين جذور المفاهيم، وتجلياتها عبر التجربة العُمانية، ودور المقاصد الشرعية في صناعة القرار، وآليات اختيار الإمام، وحدود الشورى بين التنظير والممارسة، وصولا إلى ما يحتاجه الخطاب العام اليوم لاستعادة حضور الفقه ومقاصده في بناء الوعي السياسي الرشيد.
دكتور طالب، بداية كيف نفهم العلاقة بين الفقه والوعي السياسي؟ وهل الفقه قادر أساسًا على إنتاج رؤية سياسية متكاملة؟
ابتداءً، الفقه في اللغة معناه الفهم أو الفهم الدقيق، وفي الاصطلاح العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية، سواء كانت هذه الأحكام الشرعية مرتبطة بالعبادات أو المعاملات بأنواعها المتعددة.
ومن ضمن المعاملات القضايا السياسية والاقتصادية والأسرية، بحيث يُعمل الفقهُ أدواتِه للوصول إلى الحكم الأصلح والأنفع، وإعمال الاجتهاد الفقهي والعلم بالأحكام يستدعي وعيًا عميقًا وفهمًا واسعًا؛ فإذًا هناك علاقة بين الفقه والوعي السياسي وغيره؛ فالفقهُ ممثلاً في الفقيه يتوخّى الأصلح من الآراء في جميع شؤون الحياة : المعاملات بأنواعها، السياسية، والاقتصادية، والأسرية، فكل المسائل المستجدّة والقضايا النازلة يسعى فيها الفقه الإسلامي باجتهاده للوصول إلى الأصلح والأنسب، فهذا من الوعي، والفقه يمكن أن يعطينا صورة عامة عن الجانب السياسي؛ لأن السياسة معناها توجيه الحكم لما هو أصلح وأنفع، مع مراعاة الضوابط العامة للشريعة الإسلامية ومقاصدها، والفقه في وعيه السياسي يَمنح مساحة واسعة للاجتهاد في الأمور السياسية، ويَستفيد من أهل الاختصاص في المجال السياسي؛ فهو يؤيد قيام البرلمانات والمجالس التشريعية والتنفيذية والرقابية؛ إذ هي من الأمور الداخلة في آليات صنع القرار وآليات اختيار الأنسب والأصلح من الآراء والاتجاهات السياسية، ويشجع عليها ولا يراها إلا درجة عالية في الوعي السياسي، ويركّز الفقهُ السياسي الإسلامي على تثبيت المقاصد السياسية مثل العدل والشورى والحرية والمساواة، ويجعل مساحة كبيرة للاجتهاد في جزئيات السياسة التي تقوم على المصالح الحقيقية، ويستنير بآراء المختصين وبالتجارب الناجحة في العمل السياسي.
ما أبرز المقاصد التي بُني عليها الفكر السياسي في المدرسة الفقهية العُمانية؟
ابتداءً، المقاصد هي الغايات والحِكَم الملحوظة في التشريع عمومًا أو خصوصًا، وقد ذكرتها الشريعة في نصوصها الواضحة أو ضمن نصوصها، أو كانت من ثمرات أحكامها، ومقاصد الشريعة تتجه نحو الأصلح والأصوب والأنفع للناس في جميع شؤونهم الخاصة والعامة، والمقاصد متنوعة: منها العام الكلّي، ومنها الخاص الجزئي، ومن المقاصد الكبرى العامة حفظ الدين والنفس والمال والنسل والعقل، وهناك مقاصد خاصة تُدار بها أمور السياسة وتضبط سيرها كالعدل والشورى والحرية، وجميع تلك المقاصد العامة والمقاصد السياسية الخاصة تتجه في اختياراتها السياسية لتلمس الأفضل والأصلح والأنسب، وتنسجم مع التشريع الإسلامي العام.
وفي المدرسة الفقهية العُمانية رُوعيت مقاصد السياسة، التي من أهمها العدل، وقد طُبق في مسيرة الحكام العدول، كذلك الشورى وهو مبدأ عظيم من مبادئ السياسة، كذلك المساواة، هذه كلها من المقاصد السياسية، وهي مقاصد سياسية تُبنى عليها الأحكام، وإذا طُبّقت عاش الناس عيشة هنيّة، وإذا ابتعدوا عنها أو نحيت حصلت الاضطرابات والخلافات.
وحين نتأمل في سياقات الحكم في عُمان وفي غيرها، نجد أنه كلما اقتربت السياسة من العدل والشورى والمساواة والحرية بضوابطها نجد أن هذه المدة من الحكم تكون مزدهرة، يسود فيها الرخاء والأمن والعمران، وعندما يبتعدون عن هذه القيم تحصل النزاعات والخلافات وتتفرق الكلمة، ويبدأ عزل الحاكم أو الإمام لتولية غيره، وتستمر النزاعات هكذا حتى يرجع الناس مرة أخرى إلى هذه القيم السياسية العظيمة.
«الشورى» من القيم الراسخة في التجربة العُمانية،، كيف قدّم الفقه العُماني مفهوم الشورى؟
الشورى من أسس السياسة، وهي منهج عظيم نصّ عليه القرآن الكريم، يقول الله تعالى: «وشاورهم في الأمر»، ويقول تعالى: «وأمرهم شورى بينهم»، ورسّخها النبي صلى الله عليه وسلم في حوادث كثيرة.
وفي التجربة العُمانية نجد أن الشورى طُبّقت على مرّ العصور، فطُبقت في اختيار الحاكم، والدخول في المعاهدات، وعندما يهم الحاكم أو الإمام في أمر عظيم يشاور أهل العلم وأهل المعرفة والحكمة والتجربة، أو ما يُعرفون بأهل الحل والعقد، وحين نتتبّع تعيين الأئمة في عُمان نجد أن فترة تعيين الأئمة الصالحين الذين قادوا الأمة إلى الرخاء والازدهار، مثل الإمام الجلندى بن مسعود، والإمام الصلت بن مالك، والإمام ناصر بن مرشد وغيرهم من الأئمة، نجد أنهم جعلوا الشورى منطلقهم في الحكم، فكانوا يرجعون إلى أهل الحل والعقد في أمورهم، لذلك كانت الشورى عندهم أساسًا من أسس إدارة الدولة واتخاذ القرارات المهمة.
وفي الأزمنة التي تضعف فيها الشورى ويستبد فيها الحاكم أو الإمام برأيه تحصل النزاعات والخلافات، ولا يستمر الحكم طويلاً، ويضعف العدل ويغلب الظلم، ويدب النزاع والخلاف، كما وقع في نهاية حكم الإمام الصلت بن مالك، فالشورى في مسيرة التجربة العُمانية كانت بارزة جدًا، وآتت ثمارها مُدَدًا مزدهرة من الحكم الإسلامي المعتبر.
هل هناك اختلاف بين الشورى كمبدأ فقهي وبين الشورى كممارسة تاريخية في عُمان؟
هناك نوع من الاختلاف، لكن ليس اختلافًا دائمًا، فالشورى باعتبارها مبدأً أمرٌ صريح واضح ورد في القرآن الكريم، يقول الله تعالى: «وشاورهم في الأمر»، ويقول تعالى: «وأمرهم شورى بينهم»، والنبي صلى الله عليه وسلم طبقه في وقائع كثيرة، وكذلك الصحابة.
وفي التجربة العُمانية نجد أن الشورى طُبقت إلى حد كبير في فترة الأئمة العدول، في عهد الإمام الجلندى بن مسعود، وفي عهد الإمام الصلت بن مالك، وكذلك في عهود الأئمة والحكام العدول طبقت هذه القيمة العظيمة، وكانت في الغالب تتوافق مع التنظير، ففي اختيار الحاكم، كان أهل الحل والعقد يتشاورون فيما بينهم فيختارون الأمثل والأصلح، وكذلك الحاكم العادل يطبّق المشورة في المواضيع المصيرية التي تتعلق بالإقدام على الحرب، بتعيين الولاة، والقضاة، وفي الإقدام على أمر عظيم؛ فكان الحكام يشاورون أهل الحل والعقد، ويجعلون الأمر شورى بينهم، فيأخذون بالأصلح.
فكانت الشورى تطبيقًا يتوافق مع التنظير، لكن ليس هذا دائمًا؛ فهناك أزمنة حصل فيها الاستبداد والنزاع، والاختلاف على الحكم، فأُهمل هذا الجانب، وأصبح بعض الحكام أو بعض من استولى إدارة الحكم يستبدّون بالحكم، وإدارة شؤون البلاد،
لكن من حيث الأصل، مبدأ الشورى تطبيقًا كان واقعًا ملموسًا في عهود كثيرة، وفي أزمنة عديدة من الحُكْم في عُمان.
في تراثنا الفقهي، كيف كان يُنظر إلى اختيار الإمام؟
اختيار الإمام أو اختيار الحاكم في التجربة العُمانية ليس على وتيرة واحدة، الأصل في اختيار الإمام أن يختاره أهل الحل والعقد، وأهل الحل والعقد هم أهل الشورى، والعلم والخبرة والنظر والمعرفة، والدراية بالأصلح والأنفع، ، فغالب الأئمة العدول في التجربة العُمانية والحكام -الذين ساروا بعُمان وأهلها سيرة حسنة- كانوا يُعيّنون عن طريق الشورى من أهل الحل والعقد، فيتخيرون الأفقه والأفضل والأعلم وأحسنهم خلقًا ومكانة، بحيث يكون مؤهلاً لقيادة الأمة.
لكن في بعض الأزمنة من أزمنة الحكم في عُمان وُجد من استولى على الحكم، ولم يكن توليه للحكم اختيارًا، حتى في عهود الأئمة العدول وُجد من ثار على الإمام العادل وأخذ منه الحكم، ولم يكن توليه للحكم مبنيًا على الاختيار، إنما كان مبنيًا على الاستيلاء، والوصول إلى مقر الحكم عن طريق الغلبة.
ما الشروط التي وضعها الفقهاء لأهل الحل والعقد؟
يشترط في أهل الحل والعقد العلمُ والصلاح والمعرفة والخبرة بالحياة، وعندما نتأمل في أهل الحل والعقد الذين ذكرهم التاريخ في التجربة العُمانية نجدهم كلهم أهل علم وأهل معرفة، وكانوا مرجع الفتوى والنظر واختيار الحاكم، ومن أمثلة العلماء الذين كانوا على رأس أهل الحل والعقد موسى بن علي، ومحمد بن محبوب، وخميس بن سعيد الشقصي.
كيف حمى الفقه المجتمع من الفوضى، وفي الوقت نفسه منع الاستبداد؟
الفقه هو القانون الذي يسير عليه الناس، وينظّم علاقاتهم، فينظّم علاقة الإنسان بربه وعلاقة الإنسان بالخلق، فينظم علاقة الإنسان بخالقه من خلال عبادته والاستقامة على منهجه والصلاح والتوجه إليه، وينظم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، فيمنعه من سلب الحقوق، والاعتداء على الأعراض والأموال؛ فالفقه قانون يسري بين الناس، فإذا طبّقه الناس حماهم، وهذا القانون ليس مختصًا بعلاقة الإنسان بربه أو علاقة الإنسان بالإنسان في الجانب الضيّق، إنما يتّسع لينظم علاقة الحاكم مع المحكوم، والمحكوم مع الحاكم.
فالحاكم أو الإمام له حقوق وعليه واجبات، وكذلك المحكوم له حقوق وعليه واجبات، فالفقه الإسلامي يراعي هذه الحقوق وينظمها ويوضح لكل ذي حق حقه، ويكون العمل عليه، فلذلك يمنع من الاستبداد ويحفظ الحقوق.
وخلاصة القول في هذا الموضوع أن الفقه بتنظيماته وتشريعاته يحمي الإنسان من الظلم والتعسّف، ومن هدر الحقوق، ومن الاعتداء على الآخرين من كلا الجانبين: من جانب الإنسان نفسه، أو من جانب الحاكم تجاه محكوميه، أو من جانب من هو أعلى سلطة على من هو دونه.
في رأيكم، ما الذي نحتاجه اليوم لتعزيز حضور الفقه والمقاصد في الخطاب العام؟
نحتاج اليوم إلى أن تكون مقاصد الشريعة الإسلامية مفعّلة بأهدافها وثمراتها، وغاياتها، تطبيقًا واقعيًّا ولا سيما المقاصد المتعلقة بالسياسة، والاقتصاد، ونجعلها مجسدةً في واقعنا العملي، ففي جانب الحكم وإدارته نفعّل الشورى بآلياتها المتوافقة مع المتغيرات الزمانية والمكانية، وكذلك بقية المقاصد العالية مثل العدل والمساواة والحرية، كل ذلك بضوابطه وتقنيناته وإجراءاته المنظمة، وكذلك نفعّل مقاصد الأسرة، ومقاصد الحوار ومقاصد العبادات، ومقاصد الأخلاق والقيم، هذا ما نحتاجه اليوم لتعزيز حضور الفقه، لأن الفقه يحمل هذه المقاصد المستلهمة من الوحي العظيم.