بمشاركة نخبة من الأكاديميين والباحثين -
أقام النادي الثقافي مساء أمس جلسة حوارية بعنوان «النقد الأدبي والعلوم الإنسانية»، ضمن أعمال مختبر النقد وذلك في مقره بالقرم، بمشاركة نخبة من الأكاديميين والباحثين، هم: الدكتور محمد الشحات والدكتور هلال الحجري والدكتور حسن المودن والدكتورة رانية العرضاوي.
أدار الجلسة الكاتب هلال البادي، بحضور عدد من الأكاديميين والمهتمين بالشأن الثقافي والفكري، وافتتح الكاتب هلال البادي الجلسة بطرح الإطار العام للنقاش، متوقفا عند السؤال المركزي الذي حكم الحوار، والمتعلق بعلاقة النقد الأدبي بالعلوم الإنسانية، وما إذا كانت هذه العلاقة تشهد اليوم نوعا من الانفصال أو التراجع، أم أنها تمر بتحولات عميقة أعادت تشكيل مساراتها وأدوارها، سواء داخل الجامعة أو في المجال الثقافي العام.
تحولات النقد ومساراته التاريخية
وفي مداخلته تناول الدكتور محمد الشحات سؤال تراجع النقد الأدبي، كونه سؤالا إشكاليا لا يمكن فصله عن التحولات الكبرى التي عرفها الخطاب النقدي عالميا، مؤكدا أن النقد لم يكن في أي مرحلة من تاريخه ثابتا أو مستقرا، بل ظل في حالة انتقال دائم بين نماذج معرفية متعددة.
واستعرض «الشحات» المسار التاريخي للنقد من النقد السياقي والاجتماعي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إلى التحولات التي أحدثتها اللسانيات البنيوية وأفكار دي سوسير، ثم صعود النقد النصي والبنيوي مع المدرسة الفرنسية، وصولا إلى الدراسات الثقافية وما بعد الاستعمار، معتبرا أن هذه التحولات لا تعني إلغاء ما سبقها، بل إعادة توظيفه ضمن أطر جديدة، وأشار إلى أن مفهوم النماذج المعرفية يوضح طبيعة هذا الحراك، حيث لا تموت الأفكار النقدية بقدر ما تخفت أو تعود بصيغ أخرى، مؤكدا أن النقد جزء لا ينفصل عن منظومة العلوم الإنسانية، يتأثر بها ويؤثر فيها، ويعيد إنتاج أسئلته وفقا لتحولات المجتمع والثقافة.
أزمة لا تراجع
من جانبه رأى الدكتور هلال الحجري أن توصيف واقع النقد الأدبي والعلوم الإنسانية «تراجعا»، قد يكون تبسيطا للمشهد، مؤكدا أن ما يعيشه الحقلان هو أزمة مركبة، تتجلى في مظاهر متعددة، من بينها التكدس المعرفي مقابل ضعف الانتشار، وهيمنة المركزيات الثقافية، وغياب أطراف كاملة من العالم العربي عن الحراك النقدي الفاعل.
وتوقف «الحجري» عند تراجع صورة الناقد بوصفه مثقفا مؤثرا في الوعي العام، في ظل هيمنة الإعلام السريع وثقافة «الترند» وصناعة المحتوى، معتبرا أن هذا التراجع لا يخص النقد وحده، بل يشمل العلوم الإنسانية عموما، التي باتت تعاني من تهميش مؤسسي ونظرة نفعية تقيس جدواها بمقاييس السوق والإنتاج المادي، وأكد أن المفارقة تكمن في أن المجتمعات المعاصرة، وفي مقدمتها المجتمعات العربية، أحوج ما تكون إلى العلوم الإنسانية في ظل التحولات المتسارعة في الهُوية والبنية الاجتماعية والإعلام، داعيا إلى إعادة الاعتبار لدورها بوصفها أدوات لفهم الإنسان لا كماليات معرفية.
النقد لم يمت بل تغيّر
أما الدكتور حسن المودن في رده «عن بُعد»، فقد انطلق من نقد خطاب النهايات، وخصوصا مقولة موت النقد، معتبرا أن ما يحدث هو موت أنماط نقدية وولادة أخرى، لا نهاية الفعل النقدي ذاته، مؤكدا أن النقد يغيّر أدواته ووظائفه بحسب تحولات السياق الثقافي والمعرفي.
وتناول «المودن» تحولات النقد النفسي، مشيرا إلى انتقاله من التركيز على لاوعي المؤلف إلى الاشتغال على لاوعي النص، ومتوقفا عند ما أسماه النقد التدخلي، كاتجاه نقدي معاصر لا يكتفي بالحكم على النصوص فحسب بل يتدخل لإعادة قراءة المسلمات وتصحيح تصورات شائعة، مستندا إلى الحجج والتحليل العميق.
وأشار إلى أن النقد اليوم لم يعد معنيا بمواكبة كل ما يصدر من نصوص، في ظل الفيض الكبير من الإصدارات، مؤكدا أن لكل ناقد مشروعه الخاص الذي يحدد زاوية اشتغاله واختياراته، وأن المتابعة اليومية للإنتاج الأدبي قد تقوم بها أشكال أخرى من الكتابة الثقافية، دون أن يلغي ذلك دور النقد المعرفي العميق.
سؤال المعيش اليومي
من جهتها توقفت الدكتورة رانية العرضاوي في ردها «عن بُعد» عند وضع العلوم الإنسانية في السياق الأكاديمي المعاصر، معتبرة أن الإشكال لا يكمن في ضعف التكوين بقدر ما يتمثل في تراجع حضور هذه العلوم في المعيش اليومي، وفي الضغوط التي فرضتها المعايير الأكاديمية وأتمتة التعليم الجامعي.
وأكدت أن الجامعات لا تصنع نقادا أو مفكرين بالمعنى الكامل، بل تقدم أدوات ومفاتيح أولية، بينما يظل النقد مشروعا معرفيا شاقا يتطلب اشتغالا ذاتيا طويل النفس، محذرة من التفريط في العلوم الإنسانية والفلسفة والنقد، لما يعنيه ذلك من تفريط بجزء جوهري من إنسانية الإنسان.
ودعت «العرضاوي» إلى انفتاح أوسع على الدراسات البينية، وإلى ربط النقد والفلسفة بالحياة اليومية، في مواجهة النزعة المادية والاستهلاكية التي تطغى على الخطاب العام.
أسئلة المؤسسة الجامعية وشهدت الجلسة مداخلات عامة من الحضور، تناولت دور المؤسسة الجامعية في تراجع الخطاب النقدي، وطبيعة تكوين الناقد داخل الجامعات، إلى جانب أسئلة حول النقد الموضوعي، والنقد التدخلي، وقدرة النقد على مواكبة الفيض المتزايد من الإصدارات الأدبية.
واختتمت الجلسة بالتأكيد على أهمية استمرار مثل هذه الحوارات التي تعيد طرح الأسئلة المؤجلة حول موقع النقد الأدبي والعلوم الإنسانية، ودورهما في قراءة التحولات الثقافية والفكرية الراهنة، وضرورة إعادة الاعتبار لهما في السياسات التعليمية والثقافية بوصفهما ركيزتين أساسيتين في فهم الإنسان والمجتمع.