دخل الاتحاد الأوروبي حالة من القلق منذ صدور استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025، التي صوّرت الاتحاد بلغة هي الأشد قسوة في تاريخ العلاقة عبر الأطلسي مع -الأخ الأكبر- الأمريكي.
ففي قسم بعنوان «تعزيز عظمة أوروبا»، تحذّر الاستراتيجية من أن مشكلات أوروبا أعمق من مجرد ضعف الإنفاق العسكري أو الركود الاقتصادي. وترى أن التراجع الاقتصادي يظل أقل خطورة مقارنة بما تصفه بـ«الاحتمال الحقيقي والأكثر قتامة لمحو حضاري»، مشيرة إلى قضايا تتعلق بالحريات السياسية، والسيادة، وسياسات الهجرة، وتقييد حرية التعبير، وقمع المعارضة السياسية، إلى جانب ملفات أخرى عديدة.
كما تذكّر الوثيقة بانتقادات نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس اللاذعة للاتحاد الأوروبي خلال مؤتمر ميونيخ للأمن في وقت سابق من هذا العام.
ولم تعلّق رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بعد على الاستراتيجية، غير أن كثيرين في أوروبا اعتبروها استفزازية ومهينة. أما رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا فاتخذ موقفًا أكثر تحفّظًا، قائلًا: «الأوروبيون لا يتقاسمون الرؤية نفسها مع الأمريكيين في قضايا متعددة، وهذا أمر طبيعي. ما لا يمكننا قبوله هو التهديد بالتدخل في الحياة الديمقراطية الأوروبية». وكان الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، جوزيب بوريل، أكثر صراحة، إذ وصف الاستراتيجية بأنها «إعلان حرب سياسية على الاتحاد الأوروبي».
وما يجعل نبرة الوثيقة أكثر صدمة، وفقًا لأوروبيين، أن لغة واشنطن تجاه الصين وروسيا في الاستراتيجية نفسها تبدو أقل تشددًا وعدائية.
وبوريل محق في ذلك. فمنذ مطلع العام، يعيش قادة الاتحاد الأوروبي حالة صدمة بسبب السياسة التي انتهجها ترامب تجاه الحرب الروسية ـ الأوكرانية، والتي جاءت مغايرة تمامًا لنهج إدارة بايدن.
وبات القادة الأوروبيون يتحدثون علنًا عن وقف إطلاق النار والتسوية التفاوضية، حرصًا على عدم إغضاب ترامب. ففي عهد بايدن، كانوا يرددون خطاب وزير الخارجية الأمريكي آنذاك أنتوني بلينكن، القائل إن الولايات المتحدة وحلفاءها لا ينبغي أن يدعموا وقفًا لإطلاق النار أو محادثات سلام، إلى أن تصبح كييف أقوى وقادرة على التفاوض بشروطها.
وقد تبيّن أن إطالة أمد الصراع وتصعيده كان مكلفًا ومدمّرًا، ليس فقط لروسيا وأوكرانيا، بل للاتحاد الأوروبي أيضًا. فحزم العقوبات التسع عشرة المفروضة على موسكو ألحقت أضرارًا بروسيا، لكنها في الوقت نفسه ألحقت ضررًا بالغًا بالاتحاد الأوروبي ذاته. وكانت الاستراتيجية محقة حين أشارت إلى أن الإفراط في التنظيم يمثل جرحًا ذاتيًا آخر. فبالاستناد إلى تراجع حصة الاتحاد الأوروبي من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 25 في المائة عام 1990 إلى 14 في المائة اليوم، ترى الوثيقة أن القوانين الوطنية والعابرة للحدود في الاتحاد قوضت الإبداع وخنقت روح المبادرة.
ولسنوات، روّج الاتحاد الأوروبي لنفسه بوصفه «عملاق التنظيم»، غير أن هذه اللوائح المفرطة شكّلت صداعًا كبيرًا للشركات الصينية المستثمرة والعاملة في أوروبا، كما ورد في التقرير السنوي لغرفة التجارة الصينية لدى الاتحاد الأوروبي؛ إذ تواجه الشركات الصينية تمييزًا واضحًا، نتيجة استهدافها بشكل خاص في سياسات اقتصادية وحواجز تجارية أوروبية متعددة.
وقد وجّه رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراغي انتقادات مماثلة للاتحاد الأوروبي بسبب الإفراط في التنظيم، في تقريره عن تنافسية الاتحاد قبل عام.
وتحت ضغط الولايات المتحدة، حظر الاتحاد الأوروبي تقنية الجيل الخامس لشركة هواوي، وعلّق المصادقة على اتفاقية الاستثمار الشاملة بين الصين والاتحاد الأوروبي، وهو ما تبيّن أنه خسارة كبيرة لفرص كانت ستعود بالنفع على الشركات والمستهلكين الأوروبيين.
وينطبق الأمر نفسه على استراتيجية «خفض المخاطر» التي تتبناها فون دير لاين، والرامية إلى تقليص العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الصين.
وقد تأثرت سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه الصين إلى حد بعيد بواشنطن، ولا سيما خلال ولاية ترامب الأولى، ثم في سنوات إدارة بايدن. وإذا كان من درس يمكن أن يستخلصه الاتحاد الأوروبي من استراتيجية الأمن القومي لعام 2025، فهو ضرورة السعي إلى الاستقلال الاستراتيجي، والكف عن السماح للولايات المتحدة باستخدامه أداة جيوسياسية في مواجهة الصين.
ولعقود، اعتاد الاتحاد الأوروبي على تدليل الولايات المتحدة له.
لكن الصفعة التي تلقاها في استراتيجية هذا العام قد تكون جرس إنذار يدفعه إلى أن يصبح أكثر استقلالية في عالم متعدد الأقطاب.