لطالما آمنت بأننا كمجتمع إنساني يتمتع بآخر ما توصل إليه الإنسان من علم ومعرفة، الأكثر حظا وسعادة بما نستطيع جمعه من معارف وعلوم ونستعمله منها في حياتنا. في السياق ذاته، أرى دوما بأن الإنسان الأول لا يختلف عن الإنسان الأخير كثيرا، فتسميته للأشياء التي اعتملت في نفسه واختمرت في فكره، هي ما ينقلنا من حالة عدم الاسمية، إلى الحالة الاسمية للأشياء، بمعنى أننا نحن من يمنحها الهوية والاسم الذي نشير به إليها؛ وهو ما أسميناه بعد ذلك «الاصطلاح». تبرز أسماء كثير من العباقرة الذين أسسوا لأشياء خالدة وعظيمة في التاريخ الإنساني ككل، ولكن السمة الغالبة لدى كثير منهم؛ هي العودة للماضي لفهم الحاضر، لفهم ذواتنا الإنسانية التي لا تزال -حتى هذه اللحظة على الأقل- تتحكم بمسار الأحداث والخيارات، مع الخوف المشروع من هيمنة الآلة القادمة بقوة والجزع من انفلاتها من تحكم الإنسان، وانطلاق إمكاناتها الكاملة دون قدرة على التحكم أو الضبط.

امتاز الإنسان بعقله واختص به دون باقي الكائنات، هذا العقل الذي يُحسِّن الشيء فيغدو حسنا يتفق الناس على حُسنه، أو يُقبِّحه في العقول والنفوس والعيون، فيغدو قبيحا ممجوجا. في السياق ذاته، لم يسلم العقل ذاته من الكبح والتقييد واللجم بشدة؛ إما لاجترائه على محظور ممنوع، أو لمحاولته كشف غشاوة قديمة صارت مألوفة حسنة، فلا تمجّها العيون، ولا تشمئز منها الأنفس؛ وهو ما حدا بالعلماء في كثير من الأحيان إلى الاختباء والتخفي -بالمعنيَيْن المجازي والحقيقي- كي لا تطولهم أيدي من يريد إخفاء أمر ما ينتفع ويستفيد منه أو الجُهَّال الذين يرون أن المألوف مقدس لا يمكن المساس به، فالتغيير مُرهِقٌ مُتعِبٌ أمام راحة الاعتياد.

لأجل ذلك نجد أن الإنسان تدرج في تسمية كثير من الأشياء بمسميات نراها اليوم بعين السخرية أو التندر. لكنها كانت ذات أهمية في التدرج التطوري للمفاهيم والارتقاء الإنساني ككل. فكثيرا ما نُعتت كثير من الأفكار بالجنون، بل تعدى الأمر إلى أصحاب تلك الأفكار أنفسهم. لذلك أرجعوا ذلك في بادئ الأمر إلى المس والجن والسحر والشعوذة. ثم تطور الأمر فخلصوا إلى أن أسباب الخلل في أولئك المختلفين ليس من قبيل الكفر والزندقة أو السحر والجن والشعوذة، بل لاختلال الأخلاط في جسد الإنسان.

والأخلاط في العموم؛ مفهوم جاء من الطب والفلسفة القديمة لمحاولة تجاوز الفهم القديم للأمراض وتجاوز إرجاع كل مجهول إلى القوى الخارقة والأسطورية، وإرجاعها إلى أسباب داخلية للإنسان في بعضها تحكّم وقدرة، ولا يملك أمام بعضها الآخر حولا ولا قوة. ويشير هذا المفهوم إلى أن الصحة الجسدية والمزاجية للإنسان تكون بتوازن هذه الأخلاط.

وهي أربعة أخلاط، الدم، والبلغم، والصفراء -في الكبد والمرارة-، والسوداء -في الطحال. وباعتدال هذه السوائل في الجسم، يعتدل المرء نفسيا وبدنيا، وباختلالها يصيبه الاختلال والمرض والعلل. لذلك فإن كل واحد منها -الأخلاط- يكون السبب والأصل في تفسير حالة الإنسان، من نشاط أو خمول أو حرارة وبرودة أو انبساط وانغلاق. ولكل واحد من هذه الأخلاط معنى واسع كبير يتعدى المفاهيم الطبية الحديثة التي نعرفها اليوم، ويمكن القول بإيجاز إن منشأ هذه التسمية طبيٌّ فلسفي نابع من الجسد كأساس.

وقد استمر الفلاسفة والأطباء في تبيان الفروقات بين هذه الأخلاط -السوائل-، وتبيان أثرها على الإنسان، حتى وقت متأخر جدا، لكنهم توسعوا فأضافوا شيئا آخر، وسَمَّوهُ «القُوى»، واختص بتبيان وتفسير ما يعتري النفس الإنسانية وما يصدر عنها، ليكون مبدؤها الأقصى البحث في الكيفية التي يتصرف الإنسان وفقا لها نفسيا وأخلاقيا. ويجد القارئ ذلك عند الأولين من أمثال ابن سينا في القانون للطب، ومعاصره مسكويه في تهذيب الأخلاق، حيث يقول هذا الأخير في كتابه «فالقوة الناطقة هي التي تُسَمَّى المَلَكِيِّة، وآلتها تستعملها من البدن (الدماغ). والقوة الشَّهَوِيَّة هي التي تُسَمَّى بالبَهِيمِيَّة، وآلتها تستعملها من البدن (الكبد).

والقوة الغَضَبِيَّة هي التي تُسَمَّى السَّبُعِيَّة، وآلتها بحسب أعداد هذه القوى، وكذلك أضدادها التي هي رذائل. فمتى كانت حركة النفس الناطقة معتدلة وغير خارجة عن ذاتها وكان شوقها إلى المعارفِ الصحيحةِ، لا المظنونةِ مَعارِفَ وهيَ بالحقيقةِ جهالات؛ حدثت عنها فضيلةُ العلمِ وتتبعها الحكمة. ومتى كانت حركة النفس البهيمية معتدلة منقادة للنفس العاقلة غير متأبية عليها في ما تقسطه لها، ولا منهمكة في اتّباع هواها، حدثت عنها فضيلة العِفّة وتتبعها فضيلة السَخاء».

إن إعادة قراءة هذه النصوص باعتبارها نصوص تأسيس وقاعدة للبناء، يدفعنا إلى إدراك أعمق وفهم أوضح لمسار التطور النفسي عند العرب، وفي العلم الحديث ككل. فبطبيعة الحال، لا يمكن القول بأن العرب وحدهم من كانوا يملكون المعرفة الصحيحة أو الكاملة؛ ولكن من الحماقة أيضا أن يتم تجاهل معرفتهم باعتبارها شيئا قديما لا يصلح لليوم، فضلا عن الغد. يُدرج محمد عابد الجابري في كتابه «نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي» مصطلحا ذكيا، وهو «الانتشار الموجي للثقافة».

حيث لا يترك هذا المصطلح مرسلا دون تقييد، بل يتبعه بتفسيره «نقول الانتشار الموجي ونحن نقصد ما يحدث من تناقص في شدّة الموجة كلما ابتعدت عن مركزها إلى أن تتلاشى، فتحل محلها موجة أخرى يحدث لها ما حدث للأولى». والانتشار الموجي للعلم اليوم، مصدره الأول والأخير هو الغرب. وفي انتظارنا لوصول الموجة الضعيفة في مراحلها الأخيرة إلى شطآننا، لا نعدو أن نكون كمن يرجو اصطياد الحيتان دون أن يمخر عباب المحيط.

تكمن أهمية العودة إلى النصوص لا في فائدتها المعرفية فحسب؛ لكن في السلسلة الذهنية الممتدة لآلاف السنين والتي تشكل دماغنا كبشر. فتعلّم العلوم بلغتنا وفهمها ووعينا لها، يسهل ويقوّي تلقينا لها بلغة ثانية فيما بعد. ثم إن العلم واحد في ماهيته، لكنه يتطور بتطور الأدوات، واللغة أداة أساس في كل علم. وإني أتذكر في هذا السياق بعض المتأخرين ممن لو انتفعنا بعلمهم واستفرغنا جهدنا في تحصيل ما لديهم من معرفة أُشبّهها بالحَلَقة التي تربط السلسلة بعضها ببعض؛ لسَهُل علينا الجمع بين العلوم القديمة والحديثة والاستفادة منهما سويًّا ولمنحنا ذلك قيمة حقيقية مضافة، ومن هؤلاء الشيخ مهنا بن خلفان الخروصي الذي فقدناه قبل سنتين وكان جامعا لكثير من العلوم واشتغل بتحقيق وتأليف كثير من الكتب المتداولة والنادرة على السواء.

إن الاشتغال بجمع المبادئ الأولى ومقارنتها مقارنة حديثة بما نتلقاه ونتعلمه اليوم، يكشف لنا عمق الفهم الإنساني، وضحالة المدركات التي نتبناها أحيانا. فأما العمق، فيكمن في المعرفة التي يتساءل المرء ويذهل لكيفية وصولها إلى الأوائل مع قلة الأدوات وضعفها مقارنة بما نملكه اليوم. وأما الضحالة فتتبدى في النظرة الهزيلة إلى أنفسنا والاستخفاف بموروثنا ونبذه نبذا قاطعا في سبيل «المعاصرة» و«المواكبة» لا من سبيل المعرفة بمحتواه ومكنوناته، بل لاستقلاله والاستهانة به.

والعمل اليوم ونحن على مشارف إطلاق مجمع السيد طارق بن تيمور الثقافي، أن نرجع إلى أصحاب التخصص، ونمكّن ذوي المكنة والقوة في كل مجال ثقافي وعلمي، ومن هؤلاء، المشتغلون بالتراث تحقيقا وتصحيحا ومقاربة للفهم والعصر، وأبرزهم في عمان مركز ذاكرة عمان وعلى رأسهم الأستاذ سلطان بن مبارك الشيباني، والأستاذ محمد بن عامر العيسري.

فربط الأمس باليوم ليس بالتغني بأمجاده وفنونه وعلومه، بل باستعمال تلك المعرفة استعمالا عمليا ينفع البلاد والعباد، وأن غدنا المشرق لا يكون بالانبتات عن ماضينا، بل بالبناء عليه وتصحيح أخطائه ومعالجة نواقصه وقصوره، فالأشجار العظيمة النافعة لها جذور ضاربة في الأرض، وإلا سقطت وتهاوت.