في مسعى للحصول على نسخة من كتاب الصديق محمد المرجبي «دفتر مذيع»، آثرت أن أذهب بنفسي إلى مكتبة «قراء المعرفة» بدلًا من طلب التوصيل المنزلي. لم يكن القرار عفويًا تمامًا؛ فالذهاب إلى المكتبات يعيد المرء، ولو لوهلة، إلى زمن مختلف، زمن القراءة البطيئة، ورائحة الورق، والاختلاط الطبيعي بالناس والعالم من حولك. إنها تجربة تتجاوز فعل الشراء، لتلامس معنى أعمق للثقافة والعلم والمعرفة، حين تكون حاضرة في المكان لا محصورة في شاشة.

اتصلت بالصديق إبراهيم الصلتي، صاحب المكتبة، فأرشدني إلى موقعها في ولاية بوشر؛ مكان هادئ وبسيط في مظهره، عميق في دلالته. تتموضع المكتبة في إحدى حارات غلا القديمة، تلك الحارات التي لا تزال تحتفظ بذاكرتها، بطرقاتها العتيقة وسككها الضيقة، المحفوفة ببساتين النخيل السامقة، وأفلاج بوشر القديمة التي كانت «ولا تزال» شريان الحياة في المكان. قبل أن تصل إلى باب المكتبة، تشعر أن المكان نفسه يهيئك لتجربة مختلفة؛ كأنك مدعو أولًا لاكتشاف التاريخ والذاكرة، قبل أن تكتشف الثقافة والعلم والمعرفة.

إبراهيم لم يغادر حارته، ولم يبحث عن موقع تجاري صاخب، بل اقتطع جزءًا من بيته ليكون مكتبة للأصدقاء والباحثين عن المعرفة. اختيار يحمل دلالة عميقة؛ فالثقافة هنا لم تنقل إلى الناس، بل استقرت في مكانها، فأتتها الوفود. لم يكن زوار المكتبة من أبناء الولاية وحدهم، ولا من سلطنة عمان فقط، بل جاءها باحثون وقراء من بلدان مختلفة، قادتهم الرغبة في المعرفة إلى هذا الركن الهادئ. هكذا تحول المكان، دون تخطيط سياحي مسبق، إلى محطة ثقافية تزار، وتجربة إنسانية تقصد، وتأكيد صامت على أن الثقافة، حين تكون صادقة، تجد طريقها إلى الناس من تلقاء نفسها.

هذا النمط من المعرفة والتفاعل مع المكان يندرج اليوم تحت مفهوم السياحة الثقافية، وهو من المفاهيم التي حظيت باهتمام واسع. فوفق تعريف قاموس أكسفورد، تعرَّف السياحة الثقافية بأنها «السفر بغرض التعرف على ثقافة المجتمعات الأخرى، بما يشمل تراثها المادي وغير المادي، وفنونها، وآدابها، وأنماط حياتها، ومؤسساتها الثقافية». ولم تعد السياحة الثقافية ترفًا نخبويًا، بل أداة استراتيجية تعتمدها دول العالم لتعزيز هويتها، وتنويع اقتصادها السياحي، وبناء جسور إنسانية مع الزوار.

وقد استثمرت دول كثيرة هذا المفهوم بذكاء؛ فهولندا، على سبيل المثال، جعلت من المكتبات العامة فضاءات ثقافية مفتوحة في قلب المدن التاريخية، مثل مكتبة أمستردام العامة المطلة على الواجهة المائية. وفي النرويج، تحوّلت مكتبات صغيرة في القرى الساحلية إلى محطات ثقافية يقصدها الزوار ضمن مسارات طبيعية خلابة. أما في كوريا الجنوبية، فجرى دمج المكتبات في الجبال والمتنزهات العامة، لتقديم المعرفة بوصفها تجربة سياحية متكاملة، لا تنفصل عن الطبيعة والذاكرة. هكذا أصبحت المكتبة، حين تُحسن إدارتها، مقصدًا سياحيًا بحد ذاتها، لا مجرد مكان للقراءة.

ومن التجارب العمانية اللافتة في هذا السياق تجربة بيت الزبير، حيث تحول منزل عائلة الزبير بن علي إلى متحف يضم ستة مبانٍ، تعرض كنوزًا من التراث العماني، إلى جانب قرية عمانية مصغّرة، وأفلاج تقليدية، ومعارض فنية، ليغدو نافذة حية على الماضي، ومساحة حوارية مع التراث العماني الأصيل. ولم يكن المشروع مجرد عرض لمقتنيات تراثية، بل إعادة صياغة للعلاقة بين المكان والإنسان، إذ أصبح البيت منصة للمعرفة، وملتقى للباحثين، ومحطة أساسية للزوار الراغبين في فهم تاريخ سلطنة عمان الاجتماعي والثقافي.

وما يميز تجربة بيت الزبير أنها حافظت على روح المكان الأصلية، ولم تفصل الثقافة عن السياق العمراني والتاريخي الذي نشأت فيه. فالزائر لا يدخل متحفًا معزولًا عن محيطه، بل يعبر مساحة تحكي قصة مسقط القديمة، وتربط التراث بالمشهد الثقافي المعاصر. وبهذا التحول، أصبح بيت الزبير مثالًا على كيف يمكن لمبادرة فردية مدروسة أن تسهم في صناعة وجهة سياحية ثقافية مستدامة، وتؤكد أن الاستثمار في الثقافة هو استثمار طويل الأمد في الهوية والمعرفة والإنسان.

وعودة الى قراء المعرفة ففي حديث طويل مع الصديق إبراهيم الصلتي، أشار إلى افتتاح صالون ثقافي ألحقه بمكتبته ليكون امتدادًا طبيعيًا لدورها، ومنصة إشعاع ثقافي أخرى تُدار فيها نقاشات وحوارات ولقاءات فكرية، وندوات يشارك فيها الكتّاب والأدباء والفنانون لمناقشة قضايا الثقافة، وتسليط الضوء على الإصدارات الحديثة، إضافة إلى أمسيات ثقافية تُسهم في إثراء المشهد الثقافي العماني.

حين تمتزج الثقافة بروح المكان وتاريخه، يكون لها طعم مختلف وأثر أبقى، كما هو الحال في تجربة مكتبة وصالون «قراء المعرفة»، وتجربة بيت الزبير. وأنا على ثقة بأن في سلطنة عمان نماذج أخرى واعدة تسير في الاتجاه ذاته، لكنها ربما تحتاج إلى شيء من الدعم المؤسسي من الجهات المعنية بالثقافة، لمدّ يد العون لها لتطوير مبادراتها، وتحويلها إلى منابر ثقافية حيّة على خارطة السياحة الثقافية العُمانية، يقصدها المواطن والمقيم والسائح على حد سواء.