إنّ الانتماء إلى الأدب الحديث، بأجناسه الإبداعية المختلفة، ليس مجرّد اختيار فني، بل وعي ثقافي بقيمة الزمن الذي نكتب فيه ومنه.

كانت هذه خلاصة جواب مقتضب كتبته يومًا في امتحان مساق الأدب الحديث (ب) في الجامعة الأردنية، تحت إشراف الأستاذ الراحل عبدالرحمن ياغي. يومها بدت العبارة كافية، وربما نهائية. اليوم، وبعد سنوات، وفي ذكرى ميلاد (نجيب محفوظ، 11 ديسمبر 1911- 30 أغسطس 2006م، أعود إلى تلك الإجابة وأسائلها: ماذا يعني أن ننتمي إلى الأدب الحديث؟ وما الذي يجعل كاتبًا بعينه يتجاوز زمنه ليغدو معنىً مجازيًا؟

ليس من اليسير تقديم إجابة حاسمة، فالقيمة التي يحملها المبدع لا تتصل فقط بما يكتبه، بل لماذا يكتب هذا الجنس الأدبي دون غيره. في مطلع دراستي الجامعية، كان أساتذة الأدب والنقد الحديث يلحّون على مقولة باتت شبه مسلّمة: الرواية ابنة المدينة. فالزمن الحديث، بتحولاته الاجتماعية، ومتغيراته الاقتصادية والسكانية، وصعود الطبقة الوسطى، وتطور التعليم، وتعدد الأصوات، وتعقّد البيروقراطية، كان يتجه كله نحو الرواية بوصفها الجنس الأقدر على استيعاب هذا التشظي. من هذا المنطلق كتب الناقد الراحل صلاح فضل معظم مشروعه النقدي، مؤطرًا الرواية باعتبارها نتاجًا حضريًا مشروطًا بالتحولات السكانية والثقافية، وسؤال عن وجود الديمقراطية وتحققها.

وفي السياق نفسه، يربط الناقد جابر عصفور حركة تطور الأنواع الأدبية في عالمنا العربي - التجريب المسرحي خاصة - بعدد من الشروط كلها أو بعضها وأهمها: «تأصل الممارسة الديمقراطية في المجتمع، التسامح والتنوع والتعددية في التركيبة السياسية، اقترن التسامح بحركة جناحيه: المساواة والحرية، «...» وتلازم الحرية السياسية بالحرية الاجتماعية التي لا تفرق بين الرجل والمرأة، إلغاء التمايز بين أبناء الطائفة أو القبيلة، «...» حضور المؤسسة المدنية وقيم المجتمع المدني، اقترن التلازم بحركة فكرية واعدة؛ العقل في مواجهة النقل، والاجتهاد في مواجهة التقليد...».. (مجلة فصول 1955م ص 8)

بهذه الشروط يحقق المبدع العربي مشروعه الثقافي، متنقلًا بين الصيغ التقليدية، وتلك المنفتحة على التجريب في أوسع معانيه تنظيرًا وإبداعا.

غير أن زمن الرواية العربية اليوم ليس هو الزمن الذي كتب فيه نجيب محفوظ فالمجتمع العربي، وقضاياه السياسية والاجتماعية والثقافية والتقنية، لم تعد هي ذاتها التي صاغها محفوظ في أعماله حتى وفاته. تمكّن محفوظ من الانتقال بين أبنية سردية مختلفة يُلخصها الدكتور مصطفى عطية جمعة في: البناء التقليدي (مرحلة الستينيات)، ثم الأبنية ذات الأصوات المتعددة، والبناء الملحمي، وتوظيف التراث (ليالي ألف ليلة وليلة)، والاتجاه الصوفي والشك. (الرؤية السردية وإقناعات الفكرية في تجربة نجيب محفوظ رؤية كلية/ 2020م)

ومع ذلك، لم تفقد رواياته راهنيتها، بل على العكس، بدت كأنها انتقلت من كونها تسجيلًا لمرحلة، إلى مجازٍ مفتوح يُعاد تأويله مع كل قراءة جديدة.

مؤخرًا، قرأت خبرًا عن تخصيص جائزة حديثة للرواية باسم نجيب محفوظ، (دورة 2025ــ 2026). قد يبدو الأمر متأخرًا، لكن عوض التشكيك في النوايا، يمكن النظر إليه بوصفه إشارة إلى أن محفوظ لم يغادر المَشهد، بل تحوّل إلى مرجع رمزي. فليس الاسم هنا تكريمًا لشخص، بقدر ما هو استدعاء لمعنى تراكمي ارتبط بالرواية العربية الحديثة.

بالنسبة لفتاة نشأت في صلالة بمحافظة ظفار، كان نجيب محفوظ وعيًا مبكرًا بالعالم. لم يكن بيتنا عامرًا بالمكتبات، باستثناء كتب دينية وتربوية يحتفظ بها أخي الأكبر. غير أن إصراري على القراءة، وتشجيعه، فتحا بابًا آخر. في صلالة، كانت هناك مكتبة معروفة - مكتبة العائلة - تبيع الكتب والمجلات وأسطوانات الموسيقى. إليها كنت أمشي برفقة أخي الأصغر، لأشتري روايات محفوظ واحدة تلو الأخرى، بينما كان «التلفزيون العماني الملون»، يعرض أفلامًا بالأبيض والأسود، فتتشكل في ذهني القاهرة المحفوظية بين الصورة المطبوعة والصورة المرئية.

لم تكن الرواية بالنسبة لي مجرد حكاية، بل عالمًا موازيا. أغلفتها التشكيلية، ورسوماتها، وإعلانات الأفلام المقتبسة عنها، كلها صنعت ذاكرة بصرية مرافقة للسرد. ومع أن الشاشة أدت دورًا في تقريب هذه العوالم، ظل أثر النص المكتوب أعمق وأبقى. هنا، لم تكن القاهرة مكانًا جغرافيًا، بل مجازًا قابلًا للانتقال، يعبر المدن والبلدان، دون أن يفقد معناه.

من خلال محفوظ، كان ما يمكن تسميته بـاكتشاف النقد. فقد أنارت رواياته مفهوم الواقعية النقدية، لا بوصفها نقلًا حرفيًا للواقع، بل كشفًا لبنياته العميقة وتناقضاته. وبينما أولت المناهج التاريخية والاجتماعية والمنهج النفسي الأنثروبولوجي اهتمامًا بالمؤلف وسياقه، جاءت المناهج الحداثية - من بنيوية وأسلوبية وسيميولوجيا وتفكيك ونظريات تلقي - لتعيد الاعتبار للنص ذاته ووظيفة القارئ. ومع ذلك، ظل محفوظ نقطة التقاء بين هذه المقاربات، لأنه كان يعي طبيعة النوع الأدبي وحدوده وإمكاناته.

حين مُنح نجيب محفوظ جائزة نوبل للآداب عام 1988، لم يكن ذلك اعترافًا بعمل بعينه، بل بعالم سردي متكامل، متباين في أفكاره، وشخصياته، ومعالجاته الفلسفية، والوجودية. عالمٌ يصدق عليه قول الكاتب الفرنسي بوفون الشهير: «الأسلوب هو الرجل نفسه». فقد تحولت بصمة محفوظ الأسلوبية إلى إيقاع جدلي خاص في الرواية العربية، حيث النسق السردي القائم على تفاعل الأضداد الفكرية والوجودية داخل العالم الروائي، ما يمنح إبداع محفوظ رؤية واعية أصيلة، وتراكمية تضجّ بالدهشة والخيال الخلّاق.

لم يكن نجيب محفوظ كاتب مرحلة، بل اختبارًا طويلًا للمعنى. وكما كتب علي الراعي في قراءته للثلاثية: «إن حُب كمال لعايدة ليس كحب دانتي لبياتريس... بل هو أقرب إلى حُب فيرتر لشارلوت». (دراسات في الرواية المصرية، 1964/ص 66)، أو يصف حال الحب والصراع بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل في موقع آخر حيث يرى انشغال نجيب في عديد من رواياته: «بمأساة الفرد الطيب الذي يقف حائرا بين عالم يموت، وعالم لم يولد بعد... والبطل في الثلاثية عاشق ولهان، وفيلسوف متفكر...» (شبه عائلي بين شخصيات نجيب محفوظ، 1976/ ص 41) فإن محفوظ لم يكتب العاطفة بوصفها مثالًا، بل بوصفها مأزقًا إنسانيًا مشروطًا بالزمن والوعي.

هنا، يمكن القول إن نجيب محفوظ لم يعد مجرد روائي نقرأه، بل معنى مجازي للرواية العربية نفسها: مقياسًا هادئًا نقيس به قدرتنا على السرد، ومرآة لوجه الإنسان العربي المعاصر في تحوّلات السلطة، الأخلاق، الهزائم، والصبر، وعلامة على فهم العالم حين يتبدل، دون أن نفقد لغته.