د. إسحاق بن يحيى الشعيلي -
ربما لا تكون السماء رائعة بنجومها التي تتلألأ أكثر مما تكون عليه في فصلي الخريف والشتاء ليس بسبب صفاء السماء من العوالق الغبارية التي تكون حاضرة في فصل الصيف بل أيضا بسبب طبيعة المجموعات النجمية التي تزين السماء في هذين الفصلين، فبين الحقائق العلمية والمعرفة الفلكية وبين أمسيات السمر القديمة في ليالي الشتاء الباردة على امتداد العصور التي تعاقبت عليها الأجيال في هذه البسيطة ولدت أساطير وحكايات تروي العلاقة بين هذه النجوم وبين راصديها،
حكايات شعبية محلية ربطت المعرفة بأسلوب سردي جميل عن نجمة هربت وعبرت النهر وأختها التي آثرت الانتظار في ذات المكان وتذرف الدموع حتى صغرت عيناها فأصبحت تسمى (الغميصاء) ورغم أن كلا النجمتان تحملان ذات الاسم إلا أن الأولى وتدعى (الشعرى اليمانية) أو (Sirius) تبدو لامعة لدرجة أنها تصبح إحدى ألمع نجوم السماء بعد الشمس، أما الثانية فتلك هي الشعرى الشامية (Procyon) وتبدو أقل لمعانا بكثير من أختها ويسميها العرب بالغميصاء بسبب خفوتها الواضح، هذا الأسلوب المستخدم منذ القدم في نقل المعرفة وتبسيطها بأسلوب قصصي طريف أثرى بشكل كبير الثقافة الفلكية في جميع الحضارات دون استثناء فالميثولوجيا القديمة عند الإغريق والرومان مثلا كانت تصف ذات النجوم التي وصفها العرب في حكاياتهم لكن مع الأخذ في الاعتبار الفارق الثقافي والديني بين تلك الحضارات.
في هذا المقال نسلط الضوء على أبرز المجموعات النجمية التي نرصدها بالعين المجردة خلال هذه الفترة من العام والتي تأسر قلوبنا بمجرد النظر اليها حين نراها تزين السماء ليلا، ونحاول أن نربط بينها وبين ما سيق من أساطير وحكايات عن هذه المجموعات النجمية وما تحويه من نجوم تعد هي الألمع في السماء على الاطلاق.
لماذا تختلف النجوم في اللمعان؟
رغم أن النجوم تبدو في السماء متشابهة إلا أن الواقع غير ذلك، فرغم التشابه الظاهري الكبير بينها إلا أن النجوم مختلفة كاختلاف البشر فالنجوم الصغيرة مختلفة عن النجوم الكبيرة والمتوسطة والتركيبة الكيميائية لكل نجم مختلفة عن الأنواع الأخرى من النجوم، ويعود ذلك في الأساس إلى أن إعمار النجوم الصغيرة ودورة حياتها تكون أكبر من النجوم الكبيرة وبتالي فان فرص تكون بعض العناصر في النجوم الكبيرة بسبب الكتلة الهائلة والحرارة العالية تكون أكبر من غيرها من النجوم وبالتالي نجد لكل نجم بصمته الخاصة، هذا بالإضافة إلى المسافة التي يبعدها النجم عن الأرض فبعض النجوم تبدو أكثر لمعانا ليس بسبب كونها كبيرة أو أن لمعانها الحقيقي أعلى ولكن لأنها أقرب إلينا من نجوم أخرى، ويعتبر نجم بروكسيما قنطوروس أقرب النجوم إلى الأرض بعد الشمس؛ حيث يبعد عنا حوالي 4.2 سنة ضوئية، كما أن انكسار الضوء القادم من النجم عند مروره بالغلاف الغازي للأرض يؤثر بشكل كبير على لمعان النجوم وعلى رؤيتها من الأرض، وقد وضع العالم اليوناني القديم هيبارخوس (190 ق.م – 120 ق.م)
أول تصنيف للنجوم بحيث يكون النجم الأكثر سطوعا يحمل القدر الأول والأقل خفوتا يحمل القدر السادس، واستمر العمل بهذا التصنيف لفترات طويلة من الزمن إلى أن ظهر عصر التلسكوبات ليغير من هذا التصنيف بسبب الكم الهائل من الأجرام السماوية التي أصبحت معروفة لدى الفلكيين والذي استدعى وضع تصنيف آخر بديل يأخذ في الحسبان النجوم الخافتة جدا والنجوم اللامعة جدا فأصبح التصنيف الجديد يحمل الأرقام السالبة والتي تشير إلى السطوع الأعلى (الشمس تحمل القدر -27) بينما الأرقام الموجبة تشير إلى الأجرام الخافتة على أن تصنيف هيبارخوس ظل مستعملا إلى يومنا هذا عند أطباء العيون؛ فقياس النظر لديهم يعتمد على مدى إمكانية تحديد نقاط معينة تتدرج في الأرقام من واحد حتى الستة.
ويعد نجم الشعرى اليمانية والذي نرصده هذه الأيام بعد غروب الشمس ألمع نجوم السماء بعد الشمس يليه نجم سهيل والرجل في كوكبة الجبار، وهنا يجب أن نشير إلى أن ما نراه في السماء من أجرام والتي يبدو البعض منها لامعًا لدرجة أنه يشدنا للنظر إليه لا يعد نجما بل قد يكون كوكبا؛ فكوكب الزهرة مثلا والتي يسميها البعض نجمة الصباح والمساء هي في الواقع ثاني أقرب الكواكب إلى الشمس بعد عطار لكن تبدو لامعة جدا في السماء والأمر كذلك ينطبق على كوكبي زحل والمشتري اللذين يرصدان بالعين المجردة في المساء خلال هذه الفترة من العام.
المجموعات النجمية في الخريف والشتاء بين العلم والحكايات الشعبية:
كما ذكرنا سابقًا فإن صفاء الأجواء من العوالق الترابية خلال هذين الفصلين من العام وبرودة الأجواء والتي يصاحبها موسم الرحلات والتخييم في الصحراء يمكن لأي شخص رصد العديد من المجموعات النجمية اللامعة، والمجموعات النجمية هي تجمع للنجوم تحيلها الإنسان على شكل حيوان أو شخصية معينة أما أن تكون مستمدة من الأساطير الشعبية أو أنها تحاكي الواقع الذي يعيش فيه الإنسان، فعلى سبيل المثال تصطف أربعة نجوم بشكل يكون أقرب إلى المستطيل وتتوسطها ثلاثة نجوم بشكل مائل تخيلها العربي القديم أنها عبارة عن محارب أو صياد مع سيفه في الوسط خرج للصيد مصطحبا كلبه معه ليواجه الثور الذي ينظر له بعين تميل إلى الحمرة، هذا المشهد رسمه الإنسان العربي من خلال تخيله للنجوم بواقع يعايشه في حياته اليومية فالمحارب هو برج الجوزاء والذي يبدو لامعًا لدرجة أنه يعد دليلا في السفر فمنكب الجوزاء أحد أكثر النجوم غرابة ودهشة؛ فمع لمعانه الكبير ومع وصوله إلى مرحلة العملاق الأحمر إلا أن خفوته المستمر لم يكن مفهوما لدى العلماء لدرجة أن كثيرا منهم اعتقد مع نهاية 2019 حتى نهاية 2020 أن النجم انفجر كمستعر أعظم قبل أن يعاود اللمعان في بدايات 2021 وأجريت حوله الكثير من الدراسات ليثبت لاحقًا أن هناك رفيقًا لهذا النجم هو ما جعل النجم يخفت خلال تلك الفترة، كما أن رجل الجوزاء أحد أكثر عشرة نجوم لمعانا في السماء، والنجوم الثلاثة التي أطلق عليها في الثقافة العمانية اسم الميزان أو حزام الجبار فتدعى المنطقة والنطاق والحزام، وهي أيضا نجوم لامعه ترصد بالعين المجردة، بالإضافة إلى العين التي ينظر بها الثور والتي تمثل نجم الدبران وهو معروف في الثقافة العمانية بشكل كبير حيث يعد أحد نجوم تقسيم المياه ومع طلوعه في الصيف يكون الرطب وفيرًا بأنواعه المختلفة (طلوع الدبران الرطب ترس القفران)، وسُمي بـالدبران لأنه يدبر الثريا (أو الشقيقات السبع) وهي عنقود نجمي مفتوح يراها حديد العين سبعة أنجم كما يقول الشاعر، والعناقيد النجمية هي تجمعات لنجوم شابة تكون بين مئات إلى بضع آلاف من النجوم وتقع عادة في أذرع المجرات وربما تكون الثريا خير مثال على ذلك. وتقول الأسطورة إن الدبران عشق الثريا فائقة الجمال وأرسل القمر لخطبتها لكن بسبب قلة ذات اليد عند الدبران رفضت الثريا الطلب ومع الإصرار من القمر وافقت بشرط أن يسوق لها عددا كبيرا من الإبل وفعلًا فعل الدبران ذلك لكن الثريا غدرت به ورفضت طلبه فأصبحت الإبل والتي تمثلها القلائص (وهي أقرب عنقود نجمي إلى الأرض) ويسوقها الدبران (النجم الألمع في كوكبة الثور) والذي أصبح رمزا للوفاء ويمشي خلف الثريا (العنقود النجمي الأكثر شبابا) والتي أصبحت رمزا للغدر عند العرب رغم تغنّي الكثير من الشعراء بها إلى يومنا هذا.
وليست الثريا والدبران من دارت حولهم الأساطير والحكايات الشعبية، فحتى الجدي (نجم الشمال) في كوكبة الدب الأصغر ونعش وبناته في كوكبة الدب الأكبر وسهيل في الجنوب تروى حولهم قصص ربما يكون أكثرها شهرة أن سهيل اختلف مع نعش فقتله وهرب إلى الجنوب وحينما حضرت بناته وجدت أباهن مقتولا وبجانبه الجدي الذي اتهم بقتله، فحملت بناته النعش وأقسمن أن لا يتركنه، إلا عند الثأر له بينما ظل الجدي ثابتا في مكانه لا يتحرك (دليل على براءته).
ولم تكن هذه الأساطير والحكايات الشعبية فقط من أجل التندر والسمر، بل كانت أسلوبا تعليميا يُفهم من خلاله حركة النجوم وموقعها ومواسم طلوعها وغروبها، فثبات الجدي في مكانه دليل على أن هذا النجم لا يغير من موقعه ليلا أو نهارا ولا يغرب، فهو العلامة المستخدمة لتحديد الشمال عند أهل البر والبحر وهو المرشد لجميع الاتجاهات وجميع الموانئ، والأمر ذاته ينطبق على سهيل في كوكبة الشراع، إذ يشير دائما إلى جهة الجنوب وكذلك يمكن القول لمعرفة مواقع المجموعات النجمية الأخرى. وهذه الحكايات وإن تشابه بعضها في توصيف نجوم محدده، إلا أنها تنطلق عادة من ثقافات ارتبطت ببيئة الشعوب، فالصياد الذي تصفه العرب في حكاياتها الشعبية هو ذاته المحارب الشرس الذي استطاع التغلب على الساحرة ميدوسا (والتي كانت تحول كل من يراها إلى حجارة) استطاع التغلب عليها وقطع رأسها ليستخدمه أيضا في التخلص من قيطس الوحش الذي أرسل لقتل المرأة المسلسلة أو الأندروميدا.
كل هذه الحكايات وإن اختلف مصدرها، إلا أنها ساعدت بشكل كبير في معرفة النجوم وحفظ مواقعها في السماء.
ويبقى هنا أن نشير إلى أن تغير النجوم بتغير الفصول الأربعة مرتبط ارتباطا كبيرا بدوران الأرض حول الشمس، فمع هذا الدوران يتغير موقعنا في السماء وبتالي تتغير معه النجوم التي نراها، فبعض النجوم تُحجب عنا بسبب ضوء النهار في فصل معين بينما يمكننا رصدها في فصول أخرى، كما أن موقعنا في الأرض يحدد النجوم التي نراها أيضا، فالنجوم التي تظهر في الجزء الجنوبي للكرة الأرضية لا يمكن رصدها في الشمال من الكرة الأرضية والعكس صحيح، فالنجوم الظاهرة في الشمال لا يمكن رصدها في الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية وبالتالي فالمجموعات النجمية أيضا تختلف بين الجزأين الشمالي والجنوبي من الكرة الأرضية.
وفي الختام يمكن القول إن فصلي الخريف والشتاء مليآن بالأحداث الفلكية كزخات الشهب والاقترانات المتعددة وغيرها والتي تثير الفضول للتأمل والاستمتاع بالليالي الباردة في هذا الوقت من العام.
د. إسحاق بن يحيى الشعيلي رئيس مجلس إدارة الجمعية الفلكية العمانية