د. مازن العبيداني -
لم يعد الحديث عن الخرف أو مرض الزهايمر مقتصرًا على كبار السن، فقد تحوّل هذا المرض إلى مصدر قلق عالمي يطال أكثر عدد من الأشخاص ويهدد مستقبل الذاكرة البشرية. ومع تزايد أعداد المصابين باستمرار، أصبح الحفاظ على صحة الدماغ ضرورة ملحة، وليست مجرد اهتمام طبي أو معرفي. وعلى الرغم من أن العلماء بذلوا جهودًا طويلة لدراسة الدماغ مباشرةً لفهم أسرار التدهور المعرفي، فإن الأبحاث الحديثة بدأت تشير إلى منطقة غير متوقعة على الإطلاق، وهي الأمعاء.
في أعماق جهازنا الهضمي، يعيش مجتمع هائل من الكائنات الدقيقة يُعرف بالميكروبيوم (Microbiome)، ويضم تريليونات البكتيريا التي تتفاعل مع أجسامنا بلغة بيولوجية خفية لكنها فعّالة. فبينما كان يُنظر إلى هذا العالم سابقًا باعتباره مجرد بيئة داخلية غامضة، يسلط العلم اليوم الضوء عليه بوصفه مفتاحًا حيويًّا لصحة الدماغ. فقد أصبح واضحًا أن توازن هذا النظام الميكروبي قد يكون عاملًا مؤثرًا في الوقاية من مرض الزهايمر أو في تسريع ظهوره.
تكشف الأبحاث الحديثة عن وجود علاقة معقدة ومدهشة بين الجهاز الهضمي والجهاز العصبي، تُعرف باسم محور الأمعاء-الدماغ (Gut-Brain Axis). يمكن تصور هذا المحور كشبكة اتصال ثنائية الاتجاه تنقل الإشارات العصبية، والهرمونية، والمناعية بين الأمعاء والدماغ باستمرار. تتم هذه المراسلة عبر وسائط متعددة، أبرزها العصب الحائر (vagus nerve)، لكنها تشمل أيضًا هرمونات متنوعة ومركبات كيميائية دقيقة تُسمى المستقلبات (Metabolites) التي تنتجها البكتيريا النافعة. وعندما يختل توازن هذا النظام نتيجة لسوء التغذية، أو قلة الحركة، أو التوتر المزمن، ينعكس ذلك مباشرة على وظائف الدماغ. وقد أظهرت الدراسات أن اضطراب الميكروبيوم (توازن البكتيريا المعوية) يرتبط بزيادة الالتهاب، وضعف الذاكرة، وارتفاع احتمالية الإصابة باضطرابات عصبية مثل الزهايمر.
الزهايمر، المرض الصامت
الذي يسبق أعراضه بسنوات
يُعد مرض الزهايمر الشكل الأكثر شيوعًا للخرف عالميًّا. يبدأ هذا المرض التقدمي بصمت، حيث تتراكم التغيرات في الدماغ لسنوات قبل ظهور الأعراض. وفي مراحله المتأخرة، يؤدي المرض إلى فقدان الذاكرة والقدرات الإدراكية، وصعوبة في التواصل، وتراجع في القدرة على أداء المهام اليومية. بيولوجيًّا، يتميز الزهايمر بوجود علامتين رئيستين: تشابكات بروتين تاو (Tau) داخل الخلايا العصبية، والتي تعطل آليات تغذيتها وتؤدي إلى موتها، ولويحات بيتا أميلويد (β-Amyloid) خارج الخلايا، التي تعوق التواصل العصبي وتُحفّز الالتهاب. مع تقدم المرض، يضعف الحاجز الدماغي–الوعائي (Blood-Brain Barrier) الواقي للدماغ من السموم والجراثيم، مما يسمح بدخول جزيئات ضارة تزيد من التلف والالتهاب. بالإضافة إلى ذلك، تنخفض مستويات الأسيتيل كولين (Acetylcholine)، وهو ناقل عصبي حيوي للذاكرة، مما يجعل التدهور الإدراكي أكثر وضوحًا.
أظهرت التجارب التي أُجريت على فئران مُعدَّلة وراثيًّا لتقليد مرض الزهايمر نتائج لافتة للنظر. عندما خضعت هذه الفئران لثلاثة تدخلات صحية؛ نظام غذائي متوازن، أو نشاط بدني منتظم، أو مزيج منهما، تحسنت الذاكرة والتعلّم بشكل واضح، وانخفض تراكم البيتا أميلويد، وتراجع الالتهاب العصبي. ومع ذلك، كانت النتيجة الأكثر إثارة متعلقة بالأمعاء؛ إذ اكتشف العلماء أن هذه التدخلات أحدثت تغييرات جذرية في تركيبة الميكروبيوم. أصبحت البكتيريا النافعة أكثر نشاطًا، وبدأت بإنتاج مركبات حيوية مهمة، أبرزها البيوتيرات (Butyrate)، وهي مادة ثبت دورها الحيوي في حماية الخلايا العصبية من الالتهاب وتحسين التواصل بينها. في المقابل، تراجعت البكتيريا الضارة التي تنتج مواد التهابية مثل الليبوسكريد (lipopolysaccharide)، المعروفة بقدرتها على إضعاف الحاجز الدموي الدماغي.
الميكروبيوم شريك
غير مرئي لصحة الدماغ
لم تتوقف المفاجآت عند هذا الحد؛ حيث لاحظ العلماء أيضًا ارتفاعًا في أنواع مفيدة من البكتيريا، مثل بكتيريا Lactobacillus المرتبطة بتحسين الذاكرة والتواصل بين الأمعاء والدماغ، مقابل انخفاض في أنواع أخرى مثل Alistipes المرتبطة بالالتهاب. هذه التغييرات الدقيقة في الميكروبيوم لم تكن مجرد نتيجة عرضية، بل ارتبطت مباشرة بتحسن الوظائف الإدراكية، وكأن الأمعاء بدأت تساهم بفاعلية في حماية الدماغ وإعادة تنظيم نشاطه.
تُشير الأبحاث الحديثة إلى أن الحفاظ على دماغ أكثر صحة يبدأ من خياراتنا الغذائية اليومية. إن اتباع نظام غذائي متوازن، غني بالألياف والحبوب الكاملة والبقوليات والخضروات والفواكه، يعزز بيئة ميكروبية مستقرة في الأمعاء، مما ينعكس إيجابًا ومباشرة على صحة الدماغ ووظائفه. وتبرز أهمية الأطعمة المُخمَّرة، كـالزبادي والمخللات، لكونها مصدرًا طبيعيًّا للبروبيوتيك Probiotic (البكتيريا النافعة)، التي تسهم في تقوية حاجز الأمعاء وتحسين التواصل بين الجهازين الهضمي والعصبي.
إضافةً إلى ذلك، تؤدي الأطعمة الغنية بمضادات الأكسدة، مثل التوت، والرمان، والسبانخ، والجوز، دورًا حيويًّا في حماية الخلايا العصبية من التلف الذي تسببه الجذور الحرة. هذه الجزيئات الضارة ترتبط بزيادة الالتهاب وتدهور الذاكرة. لذا، فإن تقليل هذا الضرر يعزز كفاءة الإشارات العصبية، مما يدعم العمليات الإدراكية المتعلقة بالتعلم والانتباه والذاكرة. كشفت بعض الدراسات أن التناول المنتظم للبروبيوتيك Probiotic والبريبايوتيك Prebiotic، قد يُسهم في تحسين القدرات الإدراكية، خاصة لدى الأشخاص الذين يعانون من ضعف إدراكي بسيط. وتعمل البريبايوتيك، وهي أطعمة مغذية للبكتيريا النافعة مثل الثوم والبصل والموز، كوقود حيوي لتعزيز نمو هذه الميكروبات المفيدة، مما يجعل تأثيرها على الدماغ أكثر وضوحًا.
إلا أن نجاح هذه التدخلات الغذائية يتوقف بشكل كبير على عامل التوقيت؛ فالتركيز على التدخل المبكر، قبل حدوث تدهور كبير في الخلايا العصبية، يمنح الدماغ فرصة أكبر للاستفادة من هذا الدعم. وهذا يدعم الفكرة القائلة بأن الوقاية تبدأ قبل ظهور الأعراض بوقت طويل، وأن الغذاء يمكن أن يشكّل جزءًا أساسيًّا من استراتيجية الحفاظ على الذاكرة وصحة الدماغ على المدى البعيد.
الرياضة لغة حيوية
بين الجسد والدماغ
لم تعد ممارسة الرياضة مجرد وسيلة لحرق السعرات الحرارية أو تحسين اللياقة البدنية، لكنها أصبحت جزءًا أساسيًّا من المعادلة اللازمة لحماية الدماغ. فقد كشفت الأبحاث أن النشاط البدني المنتظم يقلل من الالتهاب في الجسم، ويعزز تدفق الدم إلى المخ، ويعيد توازن الميكروبيوم. كما تبين أن الرياضة تزيد من إنتاج بروتينات مهمة مثل BDNF (عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ)، الذي يعمل بمثابة (سماد) عصبي يدعم نمو الخلايا العصبية ويحسن التواصل بينها. وتُظهر الدراسات على البشر نتائج متباينة؛ فبعض التجارب على مرضى الزهايمر أو الذين يعانون من ضعف إدراكي بسيط أظهرت تحسنًا في الذاكرة بعد تناول مكملات البروبيوتيك أو اتباع حمية غنية بالألياف، بينما لم تحقق تجارب أخرى نتائج مماثلة. ويُعزى ذلك على الأرجح إلى أن فعالية هذه الأساليب ترتبط بالمرحلة التي يُبدأ فيها التدخل؛ فعندما تصل التغيرات العصبية إلى مراحل متقدمة، يصبح من الصعب إعادة ضبط الميكروبيوم أو ترميم التلف العصبي. لذلك، فإن الرسالة الأساسية التي يوجهها العلماء اليوم هي: الوقاية تبدأ مبكرًا، قبل أن يتسلل المرض بصمت إلى الدماغ.
ثورة علمية تبدأ من
أسلوب حياتك اليومي
بات من الواضح أن الدماغ لا يعمل بمعزل عن بقية أعضاء الجسم؛ فهو يتفاعل مع طعامنا، ونومنا، ونشاطنا البدني، ومستوى التوتر الذي نعيشه يوميًّا. بفضل هذا الفهم الجديد لمحور الأمعاء–الدماغ، تتغير طريقة تعامل الأطباء والباحثين مع مرض الزهايمر؛ فلم يعد يُنظر إليه بوصفه مرضًا دماغيًّا محضًا، بل اضطرابًا مرتبطًا بنمط الحياة. اليوم، تؤكد الأدلة العلمية أن تناول وجبات متوازنة، وممارسة المشي أو الرياضة الخفيفة بانتظام، والحصول على نوم كافٍ، وتخفيف التوتر هي عناصر أساسية للحفاظ على (ذاكرة المستقبل). خلاصة القول: الأمعاء بوابة الدماغ نحو الوقاية.
إن الأمل في مواجهة مرض الزهايمر لا يعتمد فقط على ما يجري داخل المختبرات أو تطوير الأدوية؛ لكنه يبدأ من داخل كل فرد. فعندما ندرك أن الأمعاء تُعدّ (الدماغ الثاني)، يصبح الاهتمام بها ضرورة لحماية صحتنا العقلية والعاطفية والذهنية. وربما تكمن الخطوة الأولى نحو الوقاية الحقيقية في أبسط الأمور؛ طبق طعام صحي، نصف ساعة من المشي، أو قرار واعٍ بالعودة إلى نمط حياة متوازن. فصحة الدماغ ليست رفاهية، لكنها استثمار في حاضرنا ومستقبلنا، وفي ذاكرة لا نريد لها أن تنطفئ قبل أوانها.
د. مازن العبيداني أستاذ مساعد في جامعة التقنية والعلوم التطبيقية