إن ترجمة كتاب (المسيحية في عمان) من قبل دار الفلق، يشكل حدثًا جيّدا للحديث حول المصادر المهمشة لقراءة التاريخ العماني وفهم الهويات المتعددة.

إن المصادر المهمّشة هي في مقابل المصادر النخبوية والرسمية، وتتمثل في المصادر التي لا يُلتفت إليها عادة، لأنها لا تبرز نفسها باعتبارها مصادر في الأساس، وإنما أشياء «اعتيادية» أو يومية.

كثيرًا ما اتخذت الدراسات حول عمان وتاريخها والتحولات الاجتماعية النظر من الأعلى، فإما أن تكون مصادر رسمية أو نخبوية، أو ذات تجربة خارجة عن السلوكيات الاجتماعية والمشاركة فيها.

أما الأولى فهي التي تصدر عن المؤسسات الرسمية أو الحكومية، وأما الثانية فهي التي تصدر من النخب المثقفة أو المتعلّمة، سواء الأكاديمية أو غير الأكاديمية.

وأما الثالثة فهي تلك المصادر التي كتبها الرحّالة أو الزائرون أو الذين عملوا في عمان خلال فترة تاريخية معينة، وبقيت المصادر الأخرى مهمّشة ولم يلتفت إليها بشكلٍ كافٍ.

في هذا المقال، أحاول التطرق إلى مصدرين من هذه المصادر، الأول: الشعر في الفنون الشعبية العمانية، والثاني: الأحاديث والحوارات اليومية.

تشكّل الفنون الشعبية جزءًا مهمًّا من فهم التاريخ العماني، إذ حفظت العديد من الحوادث الاجتماعية والفردية للشعراء. على الرغم من أن في كثير من الأحيان سيطرت أنماط معيّنة من التفكير في شكل أو بنية القصائد والمحاورات، إلا أنها تضمنت ـ مجازًا أو مباشرة ـ العديد من التوثيق التاريخي. قد تترجم في هذه المحاورات العديد من المشاكل والمشاعر والرؤى اتجاه الذات والآخر. يكون هذا التعبير عادة في صورة أدبية غير مباشرة، تحاول أن تتملص من اللغة المباشرة التي يُمكن أن توقع الكاتب في مشكلة، أو مساءلة؛ لذلك يكثر في هذه المحاورات استخدام الأساليب اللغوية مثل المجاز والاستعارة والكناية للتعبير عن المدلول المراد.

تبلورت الوظيفية في أشعار الفنون الشعبية في التعبير عن الذات والانتماءات ـ لا سيما الانتماءات القبلية سابقًا، والوطنية لاحقًا ـ وحل النزاعات بطرق رمزية، وتوثيق التحولات الاجتماعية والاقتصادية والهجرات وغيرها.

إن هذه الوظيفية يُمكن تتبعها من خلال تحليل الخطاب الشفهي للقصائد والمحاورات الموثقة، على الرغم من أن أكثرها قد ضاع بسبب عدم التوثيق. وفي حال التتبع، لا بد أن يتم النظر إلى التحليل السياقي كذلك، إذ معرفة السياق مهم لمعرفة موضعة الأبيات في ظرفيتها.

أهمية أشعار الفنون الشعبية، تأتي من أن هذه الأشعار انطلقت من الناس أنفسهم ـ مع الانتباه إلى أن توصيف الموقع على أنها أعلى أو أسفل مشكل لأنه يفترض مركزيات معينة، لذلك لم يتم استخدامه هنا ـ لا سيما وأن هؤلاء الناس مشاركون في الحدث الاجتماعي وواقع عليهم؛ وبالتالي فهم مشاركون إيجابيون في بناء الخطاب محل التحليل. كما أنها انطلقت من المشاكل التي في كثير من الأحيان يُنظر لها على أنها غير مهمة.

تكمن المشكلة الأكبر في أشعار الفنون الشعبية أنها تعاني من بقائها في نطاق الشفهية، مما يجعل احتمال ضياعها كبيرًا، خاصة إذا تقادم عليها الزمن، كما ضاعت الكثير من الأشعار للشعراء الذين لم يحوزوا الأضواء الكافية، على الرغم من أن أشعارهم يُمكن أن يفهم من خلالها حالة المجتمع الذي قيلت فيه؛ لذلك لا بد من الالتفات إلى أهمية توثيق هذه الأشعار والانتباه إلى ما تمثله من مصدر معلوماتي مهم للباحثين.

لا يحتاج الحديث حول أشعار الفنون الشعبية إلى أمثلة لهذه الفنون، إذ أغلب الفنون الشعبية في عمان تحتوي على الأشعار والمحاورات، كلٌّ بحسب طوره الموسيقي وبنائه اللغوي، وذكر أمثلة منها هنا يُمكن أن يجعل نسيان كثير منها محتملاً، لأن كلها مهمة ولا يُمكن التفريط بها.

في الوقت نفسه، فإن الالتفات إلى الحوارات والأحاديث اليومية التي تكون في المجالس والمقاهي والأسواق يجعل العديد منها مصدرًا معرفيًّا لاستقراء أحوال الجماعات والأفراد، بحيث تجعل هذه الأحاديث عبارة عن تتبع لما يُمكن استقراؤه لما يمرّ به المجتمع من ظروف اقتصادية أو معيشية أو ثقافية أو غيرها، والبناء عليه.

وعلى الرغم من أن نمط الحياة الحالي يقلل من التجمعات في المجالس ـ كما كانت سابقًا ـ إلا أن التجمعات في الأماكن الأخرى مثل المقاهي أو الأسواق أو غيرها لا تزال ركيزة مجتمعية بديلة للنمط السابق. فضلا عن ذلك، ما زلتُ أفترض أن العودة إلى التجمع في المجالس وعدم إهمالها وحصر وظيفتها في المناسبات فقط، أمر لا بد منه؛ إذ إنها تزيد من التكافل الاجتماعي ومعرفة أحوال الناس وما يحتاجونه.

إن الكلام العابر يمثّل قوّة شفهية وبحثية لا يُمكن الاستهانة بها، وفي كثير من البلدان، يشتغل الأنثروبولوجيون على مسألة ما يُمكن أن يكشفه الكلام العابر والأحاديث اليومية من رؤى للجماعات حول أنفسهم والآخر ونظرتهم للمجتمع والدولة والعالم. إلا أن هذه الدراسات قليلة في عمان للأسف، أو على الأقل غريبة عنها؛ إذ كتبت بلغات أخرى لا يفهمها إلا القليل؛ وبالتالي، فإن تعزيز الدراسات التي تعتمد على هذه المنهجية، والكتابة من خلالها، باللغة العربية، أو ترجمتها إلى اللغة العربية، أمر لا بد منه، لبناء قاعدة بيانات يُمكن الاستناد إليها في الدراسات التالية، وما تكشفه من «نظرية» اجتماعية، أو رؤى كلّية أو جزئية على الأقل.

هذا الاهتمام بالمصادر المهمّشة يُمكن أن يشكل نقلة معرفية في الأبحاث وقراءة التاريخ وفهم الهويات العمانية، إذ إنها تفكك المركزية الوثائقية التي بقيت مسيطرة لمدة طويلة. مشكلة التاريخ الرسمي أو النخبوي في اختزال التاريخ وحصره في زاوية معينة فقط، مع إلغاء التصورات الأخرى، لكن سماعه من الجماعات المختلفة، والمصادر الأخرى، سيؤدي إلى نظرة أكثر شموليّة، وأقل مركزية.

فالاعتماد على مصادر رسمية ونخبوية يؤدي إلى خسارة في الفهم العام لهذا التاريخ وهذه الأحوال، لتصبح الذاكرة الجماعية، ذاكرة واحدة، هي الموجودة مع استثناء أو إلغاء الذاكرات الأخرى. وبالتالي تضييق الإبداع والخيال، لأنه تركّز على منطقة واحدة وبالتالي فكلّ الأعمال التي تنطلق منها، تصبح متشابهة إلى حد كبير.

توسيع دائرة المصادر وشموليتها يحفز على زيادة البحث فيها ومحاولة تحسين فهم الذات وتعميق النظر في الروايات والرؤى حول الهويات والتاريخ. مما يشكّل نوعًا من دمقرطة المعرفة بجعلها مشتركة ومنتشرة بين الناس، لا محتكرة بين نخب معينة، تشكّل رؤاها حول التاريخ والمجتمع من منطلقاتها الشخصية، مما يساعد في زيادة إنتاج المعرفة بنظرة أكثر عمقًا وأكثر إنسانية، لأنها على تماسٍ مباشر مع الناس وظروفهم وأحوالهم، وليست بعيدة عنهم، أي تنطلق منهم للكتابة عنهم.

فهذه دعوة للنظر في المصادر المهمّشة وتوسيع دائرة البحث والفهم، ولا يتحدد الأمر في الفنون الشعبية والحوارات اليومية، بل تتعدد المصادر بتعدد الفاعلين في إنتاجها، منها الأمثال والنكات وقصص الأطفال والأساطير والوثائق والعقود والمذكرات الشخصية غير المنشورة وغيرها. وكلما كانت دائرة البحث أوسع وأكثر تعقيدًا، أصبحت القدرة على الفهم الأعمق أكثر قابلية، مع تجنب الظلم أو العنف أو التجاهل المعرفي (الابستيمي) الذي يحصل من خلال الانتقائية في المصادر الرسمية والنخبوية التي تهمّش الكثير من الفاعلين في سبيل إبقاء مركزيتها والاستحواذ عليها.