إيهاب الملاح

(1)
يتذكر كل من شاهد فيلم الأنيميشن الشهير «موانا» رحلة بحثها المثيرة عن روح الجدة للوصول إلى القلب الأخضر أو "روح المرأة المقدسة" سر الوجود.
ببساطة شديدة يعالج هذا الكتاب الضخم هذه الفكرة في تاريخيتها وإثنولوجيتها وفولكلوريتها، إنه بالجملة بحث آخر مواز في تاريخنا الفكري والثقافي والأسطوري عن تلك الروح البرية التي تحمينا وتمدنا بالطاقة والقدرة اللازمة على الحب لمواجهة قسوة العالم وعنفه وشراسته..
بحث عميق الجذور، ممتد، ومتشعب عن صورة "الأم المقدسة" في التراث الإنساني العالمي، والحكايات الشعبية، والثقافات البدائية والقديمة. الأم التي عُرفت في العالم، وفي التاريخ، وعبر العصور والأزمان، بأسماء كثيرة وصور عديدة وظهرت للناس عبر العالم في عصور زمنية مختلفة، في صور وأشكال تكون الروح فيها أكثر ما تكون استعدادا لفهمها.
رحلة أظنها ممتعة ومدهشة ومثيرة داخل أعماق النفس، حيث تكمن تلك القوة الفطرية التي لا تُروَّض، والروح التي تبحث عن الحرية والتجدد. تناضل مؤلفة الكتاب عبر فصوله لإماطة اللثام عن كيف يمكن للمرأة أن تستعيد صوتها الداخلي، وتتصالح مع ذاتها العميقة، وتستمد من الطبيعة طاقة للحياة والمواجهة.
(2)
«إطلاق الروح البرية للمرأة»، هو بمثابة الجزء الثاني من الكتاب الشهير «نساء يركضن مع الذئاب» للباحثة والكاتبة الأمريكية من أصول مجرية مكسيكية كلاريسا بينكولا لا إستيس، وهي محللة نفسية تحمل درجة الدكتوراه في التحليل النفسي عن رسالة بعنوان (الحب هو الحقيقة الوحيدة وما عداه وهم ـ في مداواة الفقد وعلاج الصدمات النفسية وتبديد الاكتئاب).
وهي أيضًا شاعرة وقاصة تخصصت في الميثولوجيا (علم الأساطير) وكرست من عمرها سنوات طويلة في جمع الأساطير التي تتناول المرأة قديمًا، وربطت بين الميثولوجيا القديمة فيما يخص المرأة وعلم النفس الحديث، وتحديدًا مدرسة التحليل النفسي الشهيرة لـ"يونج"، كما مارست الطب النفسي في عيادتها كطبيبة، بالاستعانة بالأساطير والقصص والأحلام في العلاج النفسي للمرأة.
استغرق كتابها الأشهر «نساء يركضن مع الذئاب» عشرين عاما كاملة حتى ظهر للنور، وحين ظهوره حقق شهرة عارمة غير مسبوقة، ومثَّل نقطة فارقة في تاريخ النشر وأفضل الكتب رواجًا؛ إذ تربع على عرش الأكثر مبيعًا لسنواتٍ طويلة في أمريكا وأوروبا، وتُرجم إلى أكثر من ثلاثين لغة من بينها العربية، صدرت الترجمة العربية عام 2003 عن المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة، وبعد عشرين عامًا أخرى أصدرت كتابها هذا «إطلاق الروح البرية للمرأة» الذي ترجمه إلى العربية المترجم الراحل مصطفى محمود، وصدر عن دار العين للنشر قبل سنوات قليلة.
تنطلق "كلاريسا" في كتابها هذا من مفهوم "إطلاق الروح للنساء" إلى معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية من منظور التقديس النسوي الصوفي، ولأنها شاعرة، تتدفق صلواتها الشعرية التي ابتدعتها واستمدتها من منجم الفولكلور الشعبي الخصيب، تترنم بها في تقديس الروح النسوية التي تتجسد في آلاف "المريمات" التي تتجلى فيها المرأة، وتتغنى بتقديس الأمهات اللواتي، تستمد منهن جذور سلالتها.
(3)
أما الذي تقصده كلاريسا بينكولا بـ "الروح البرية للمرأة"، من وجهة نظر علم النفس، وفي عُرف الروائيين والشعراء أيضًا،‏ هي روح الأنثى،‏ بل مصدر الأنوثة والأمومة،‏ إنها كلُّ ما هو فطري في كلا العالمين الظاهر والباطن،‏ إننا جميعًا نأخذ منها الخلية التي تحوي كل الغرائز والقلب الأمين،‏ وهي فصيحة في لغات الأحلام والعشق والشعر،‏ إنها الأفكار والمشاعر والذاكرة،‏ ورائحة الطين والخصب والصوت الذي يصرخ فينا‏:‏ هذا هو الطريق والتي تصرخ في وجه الظلم،‏ وهي التي نهجر الوطن بحثًا عنها، والتي نعود إليه من أجلها، والحاضنة التي نرعى فيها براعم الأفكار والعلاقات الوليدة‏..‏
ولكن أين نجدها؟ تسأل الكاتبة وتقول إنها تجوب الصحاري والغابات والمحيطات والمدن والقلاع،‏ في المصنع،‏ في السجن والجبل النائي،‏ مع الأقليات المعزولة،‏ في الشارع والجامعة،‏ تترك لنا آثار أقدامها لنتبعها،‏ وهل هناك برهان علي وجودها؟
تجيب الكاتبة أن‏:‏ نعم‏..‏ لقد قابلناها ملايين المرات، وخبرناها في اشتياقاتنا وإلهاماتنا،‏ إنها تعيش في قاع البئر وعلى سطح الماء،‏ في الأثير،‏ تعيش في الدموع والمحيطات،‏ يسمع أزيزها في لحاء الشجر عندما ينمو،‏ إنها آتية من المستقبل ومن فجر الزمان،‏ تعيش في الماضي وتحضر حين نستدعيها،‏ تأخذ مكانها في مائدتنا،‏ تقف خلفنا في الصف وتقودنا إلى الأمام عبر الطريق،‏ إنها تعيش في الجيوب الخضراء تحت الجلد،‏ في حفيف عيدان القمح التي تموت عند الخريف،‏ تعيش على رؤوس الموتى عندما يقبلهم الأحياء ويصلون عليهم،‏ تعيش في المكان الذي تصنع فيه اللغة،‏ تعيش في الإيقاع والشعر والغناء،‏ في النوتة الموسيقية،‏ إنها اللحظة التي تسبق تفجر الإلهام فينا‏.‏
تتجلى في روح الذئبة حين تضطر لأن تقتل جروًا من ولدانها عندما يُصاب بجرح قاتل، تقول المؤلفة "فعلمني هذا أن أسمى درجات الشفقة، في ضرورة أن نسمح للموت أن يأتي إلى من يعانون سكراته".
وتقول أيضًا "وتعلمت الإخلاص والمثابرة من الديدان الغامضة التي كلما سقطت من على أغصانها، عاودت الزحف إليها، وتعلمت كيف يكون لجلد البشرة أن يصير مخلوقًا حيًّا، عندما أشعر بدغدغة تلك الديدان وهي تزحف على يدي. وعرفت النحو الذي سيكون عليه الإحساس يومًا ما من تسلق قمم الأشجار".
(4)
أما كيف تجمعت لها هذه المادة الهائلة والغزيرة والمتشعبة من المواد المثيرة الشائقة، فإنها تستعين بالحكايات الشفاهية‏:‏ حكايات الجان والفولكلور والأساطير القديمة في عناصرها الأولى قبل أن تضيف الثقافات والأيام عليها طلاء يبدل من مواضع العظام في بنائها،‏ وهي من أجل ذلك تجوب البلدان تقارن بين النسخ المتعددة لنفس الحكاية تجمع أكبر عدد من هياكلها القديمة والجديدة لتبحث عن الأصل الذي تعلمت منه البشرية كل ما يتعلق بالحب والزواج والميلاد والموت.. إلخ.
لقد ظلت تدرس الأنماط الأولية لهذه القصص على مدى عشرين عاما كما قلنا،‏ واستغرقت وقتًا أطول في دراسة الأساطير حتى حصلت على قدر هائل من الهيكل العظمي لهذه القصص، وباتت قادرة على معرفة المواضع التي تئن فيها هذه الشظايا بحثا عن عظامها الضائعة‏.‏
وتجميع القصص،‏ هو نوع من التنقيب في الحفريات،‏ وكلما توفر لنا قدر أكبر من عظام القصة كانت هناك فرصة أكبر للتوصل إلى القصة الكاملة، وبقدر ما يتوافر قدر أكبر من القصص الكاملة تنكشف لنا ثنايا النفس الغامضة وحناياها،‏ وتتهيأ لنا فرصة أفضل لفهم "أعماق الروح"، وحينئذ تفصح المرأة الوحشية عن نفسها بشكل أكبر،‏ تقول المؤلفة إنها بحثت عن هذه الحكايات على موائد الطعام وتحت أشجار العنب، وفي مزارع الدواجن، وحظائر الماشية‏.
تدلل كلاريسا على تصورها هذا بالمثال التالي: في أزماننا، أحيانًا إذا أراد شخص أن يفهم شعيرة مبهمة أو تكريسًا غامضا منذ فترة طويلة، يستطيع أن يمعن النظر في بقايا شعائر مماثلة يجدها في ممارسات حديثة، ويدرك أن نبض المعنى لا يزال حيا بالكامل في الشعائر القديمة الباقية في الأزمان الحديثة.
وبهذه الطريقة فإن جدتي "كاثرين" أبقت على الشعائر ذات الخلفية القبلية "الشوابينية" العرقية التي تبحث عن "مادونا السوداء"، مباشرة أينما كانت تعيش، سواء في الوطن الأم باعتبارها حائكة فلاحة في الريف، أو في العالم الجديد باعتبارها لاجئة ومهاجرة، وهذه هي الكيفية التي بحثت بها عن الأم المقدسة التي صمدت أمام النيران.
إن «إطلاق الروح البرية للمرأة» لمؤلفته كلاريسا -في نظري- أكثر من مجرد كتاب أو حصيلة بحث وجمع، إنه مرآة تحث على استجلاء الحقيقة والتعمق في استكشاف الذات، وفي الآن نفسه هو رسالة لكل امرأة تبحث عن ذاتها، ولكل قارئ يود فهم سرّ الروح الإنسانية الجامحة.